ولما كان السياق من أول السورة لإنذارهم، وكان لا بد في صحة الإنذار من تصحيح الرسالة، وختم بأمر الاستدراج، وكانوا قد واقعوا من المعاصي ما لا يجترئ عليه إلا مطموس البصيرة، وكان عندهم أن
[ ص: 180 ] من قال: إنهم على حال سيئ، - مع ما هم فيه من النعم الظاهرة - مجنون، وكان التقدير دلالة على
صحة الاستدراج; ألم يروا أنهم يقدمون على ما لا يرضاه لنفسه عاقل من عبادتهم للحجر وشماختهم عن أكمل البشر ووصفه بالجنون ووصفهم أفضل الكلام بالسحر والكذب إلى غير ذلك مما يغضب من ليس النفع والضر إلا بيده، وهو مع ذلك يوالي عليهم النعم، ويدفع عنهم النقم، هل ذلك إلا استدراج; قال منكرا عليهم عطفا على ما أرشد السياق والعطف على غير معطوف عليه إلى تقديره:
أولم يتفكروا أي: يعملوا أفكارهم ويمعنوا في ترتيب المقدمات ليعلموا أنه لا يتوجه لهم طعن يورث شبهة بوجه من الوجوه، وبين المراد من هذا التفكر وعينه بقوله:
ما بصاحبهم أي: الذي طالت خبرتهم لأنه أمتنهم عقلا وأفضلهم شمائل ولم يقل: ما برسولي ونحوه؛ لئلا يقول متعنتهم ما لا يخفى، وأغرق في النفي فقال:
من جنة أي: حالة من حالات الجنون.
ولما نفى أن يكون به شيء مما نسبوه إليه وافتروه عليه فثبتت رسالته، حصر أمره في النذارة؛ لأنها النافعة لهم مع أن المقام لها في هذه السورة فقال:
إن أي: ما
هو إلا نذير أي: بالغ في نذارته
مبين أي: موضح للطريق إيضاحا لا يصل إليه غيره، ومن أدلة ذلك عجز الخلق عن معارضة شيء مما يأتي به من أنه أحسن الناس
[ ص: 181 ] خلقا وأعلاهم خلقا وأفضلهم عشرة وأرضاهم طريقة وأعدلهم سيرة وأطهرهم سريرة وأشرفهم عملا وأحكمهم علما وأرصنهم رأيا، وأعظمهم عقلا وأشدهم أمانة، وأظهرهم نبلا.