ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعا على تقرير أدلة التوحيد، وكان المقصود من الإنذار الرجوع عن الإلحاد، قال منكرا عليهم عدم النظر في دلائل التوحيد الراد عن كل حال سيئ:
أولم ولما كان الأمر واضحا قال:
ينظروا أي: نظر تأمل واعتبار، ودل على أنه بالبصيرة لا البصر بالصلة، فقال إشارة إلى كل ذرة فيها دلائل جمة:
في ملكوت وعظم الأمر بقوله:
السماوات والأرض أي: ملكهما البالغ من حد العظمة أمرا باهرا بظاهره الذي يعرفونه وباطنه الذي يلوح لهم ولا يدركونه.
ولما كانت أدلة التوحيد تفوت الحصر، ففي كل ذرة برهان قاهر ودليل ساطع باهر، قال:
وما أي: وفيما
خلق الله أي: على ما له من الجلال والجمال
من شيء أي: غيرهما، ليعلموا أنه لا يقدر على شيء من ذلك فضلا عن ذلك غيره، ويتحققوا أن كتابه سبحانه مباين لجميع مخلوقاته فيعلموا أنه صفته سبحانه وكلامه، فلا يلحدوا في أسمائه فلا يسموا بشيء منها غيره لما ظهر لهم من تمام
[ ص: 182 ] قدرته وتمام عجز غيره عن كل شيء ومن شمول علمه وتناهي جهل غيره بكل شيء إلى غير ذلك حتى يعلموا بعظمة هذا الكون أنه سبحانه عظيم، وبقهره لكل شيء أنه قهار شديد، وبعجز كل شيء عن كل شيء من أمره أنه عزيز، وبإسباغه النعمة أنه رحيم كريم إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تنطق الأشياء بها بألسنة الأحوال وتتحدث بها صدور الكائنات وإن لم يكن لها مقال، ويشرحها كلام التدبير بما له من الكمال
وأن عسى أي: وينظروا في الإشفاق والخوف من أنه ممكن وخليق وجدير
أن يكون قد اقترب أي: [دنا دنوا عظيما
أجلهم أي] الذي لا شك عندهم في كونه بموتة من موتات هذه الأمم التي أسلفنا أخبارهم كنفس واحدة أو بالتدريج فيبادروا بالإيمان به خشية انخرام الأجل للنجاة من أعظم الوجل، فإن كل عاقل إذا جوز خطرا ينبغي له أن ينظر في عاقبته ويجتهد في الخلاص منه.
ولما كان قد تقدم في أول السورة النهي عن التحرج من الإنذار بهذا الكتاب، وبان بهذه الآيات أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بالإنذار به حق الاتصاف، وبان أن القرآن مباين لجميع المخلوقات، فثبت أنه كلام الله; تسبب عن ذلك الإنكار على من يتوقف عن الإيمان به،
[ ص: 183 ] والتخويف من إحلال أجله قبل ذلك فيقع فيما لا يمكنه تداركه، وذلك في أسلوب دال على أن الإيمان بعد هذا البيان مما لا يسوغ التوقف فيه إلا لانتظار كلام آخر فقال:
فبأي حديث أي كلام يتجدد له في كل واقعة بيان المخلص منها
بعده أي: بعد هذه الرتبة العظيمة
يؤمنون فقد دلت هذه الآية على أن للإيمان طريقين: أحدهما سمعي، والآخر عقلي، قال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه: الحكم إنما يتلقى من خطاب الله البالغ على ألسنة رسله، وقد اتضح واشتهر أن السمع من طرق تفهم خطاب الله الذي تبلغه الرسل، وكذلك أيضا قد تحقق لقوم من أولي الألباب أن الرؤية وسائر الحواس طريق من طرق تفهم خطاب الله أيضا، يعي منه اللب العقلي معنى الإرسال في كتابه المخلوق كما يعي العقل معنى الإرسال من مفهوم كلامه المنطوق، وقوم ممن فهم من مرئي كتاب الله المشهود إرسالا ولقن أحكاما يسمون الحنيفيين
كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل، وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=682406شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل واحد منهم "يبعث أمة واحدة" لاهتدائه من نفسه من غير رسالة هاد خارج عنه، بل من رسول موجدته وإحساسه للعالم، ولأنه إنما أخذ بكلية حكم الإيمان ووجوب المناصفة مع الخلق من شهود خلق الله، وصار مع ذلك يترقب تأكيد ما يحصل له عقلا من مسموع خطاب الله، وعلى نحو هذه الحال - وأتم هي - حال
[ ص: 184 ] الأنبياء والصديقين قبل مورد الوحي على النبي وقبل سماع صديقه وارد وحيه، وهؤلاء هم - الذين لا يتوقفون عن الإيمان بالنبي عند ابتداء دعوته، وكما أن النبي لا يلزم ويحكم بل يبلغ عن الله فكذلك نظر العقل لا يلزم ولا يحكم بل يبلغ عن الله فيكون الحكم الذي هو تصرف الحق في أفعال الخلق بهذا على ضربين؛ شرعي أي: مأخوذ من الإرسال الشرعي، وعقلي أي: مأخوذ من الإرسال العقلي، وحاصل ذلك أن العالم المشهود مبين عن أمر الله، وكل مبين مبلغ، فالعلم مبلغ أي: بما يفهمه الفاهم من كلامه عن الله، فإن النحاة قالوا - كما ذكره
ابن عصفور في شرح الإيضاح
لأبي علي وكذا غيره: إن الكلام في الاصطلاح لا يقع إلا على اللفظ المركب وجودا أو تقديرا المفيد بالوضع، قال: واحترزوا باللفظ عما يقال له كلام لغة وليس بلفظ كالخط والإشارة وما في النفس وما يفهم من حال الشيء، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي: نحو حال الخجل والغضبان، وبالفعل نحو الإشارة باليد والعقد بالأنامل وبآثار الفعل كالصنائع والأعمال، وباللفظ الذي يلفظ به القلب إلى ظاهر اللسان، وبآثار رقوم يحاذى بها حذو مفهوم اللفظ وهو الخط. انتهى.