ولما كانت نصرة المسلمين في هذه الغزوة ظاهرة جدا، قال:
وما جعله الله أي: الإمداد والوعد به على ما له سبحانه من العظمة التي من راقبها لم يهب شيئا
إلا بشرى أي: لتستبشر به نفوسكم، ولم يحتج إلى تقييد بأن يقال: لكم، وأما في قصة أحد فقد كان المقتول منهم أكثر من المقتول من الكفار فلولا قوله: "لكم" لربما طرق بعض الأوهام حين سماع أول الكلام أن الإمداد بشرى للكفار.
ولما كان الذي وقع الحكم به هنا على الإمداد أنه بشرى نفسه من غير قيد، علم أن العناية به أشد، فكان المحكوم به الطمأنينة كذلك، فكان أصل الكلام: إلا بشرى هو وطمأنينة هو، فلذلك وجب تقديم ضميره في قوله "به" على القلوب تأكيدا لأمره وتفخيما لشأنه، وإشارة إلى إتمامه على عادة
العرب في تقديم ما هم به أعنى وهو عندهم أهم فقال:
ولتطمئن أي: وطمأنينة لتطمئن
به أي: وحده من غير نظر إلى شيء من قوتكم ولا غيرها
قلوبكم فالآية من الاحتباك، وأما في قصة
أحد فلما قيدت البشرى بالإمداد بلكم لما تقدم، علم الطمأنينة كذلك، فكان الأنسب تأخير ضميره وتقديم القلوب الملابسة لضميرهم موازنة لقوله: "لكم".
[ ص: 233 ] ولما كان ذلك مفهما أن النصر ليس إلا بيده وأن شيئا من الإمداد أو غيره لا يوجب النصر بذاته، صرح به في قوله:
وما النصر أي: حاصلا وموجودا بالملائكة وغيرهم من الأسباب
إلا من عند الله أي: لأن له وحده صفات الكمال، فما عنده ليس منحصرا في الإمداد بالملائكة فالنصر وإن كان بها فليس من عندها، فلا تعتمدوا على وجودها ولا تهنوا بفقدها اعتمادا عليه سبحانه خاصة، فإن ما عنده من الأسباب لا يحاط به علما، هذا إذا أراد النصر بالأسباب، وإن أراد بغير ذلك فعل فكان التعبير بعند لإفهام ذلك.
ولما كانت هذه الغزوة في أول الأمر، وكانوا بعد بروز الوعد الصادق لهم بإحدى الطائفتين كارهين للقاء ذات الشوكة جدا، ثم وقع لهم ما وقع من النصر، كان المقام مقتضيا لإثبات عزة الله وحكمته على سبيل التأكيد إعلاما بأن
صفات الكمال ثابتة له دائما، فهو ينصر من صبر واتقى بعزته، ويحكم أمره على أتم وجه بحكمته، هذا فعله دائما كما فعل في هذه الغزوة فلذلك قال معللا لما قبله مؤكدا:
إن الله أي: الملك الأعظم
عزيز أي: هو في غاية الامتناع والقهر لمن يريد قهره أزلا وأبدا. لا يغلب ولا يحوج وليه إلى زيادة العدد ولا نفاسة العدد
حكيم أي: إذا قضى أمرا كان في غاية الإتقان والإحكام، فلا يستطيع أحد نقص شيء منه، هذا له دائما، فهو يفعل في نصركم هكذا مهما استأنستم
[ ص: 234 ] إلى بشراه ولم تنظروا إلى قوتكم ولا غيرها مما سواه فلا تقلقوا إذا أمركم بالهجوم على البأس ولو كان فيه لقاء جميع الناس.
ولما أكد هنا، لم يحتج إلى إعادة تأكيده في آل عمران فقيل:
العزيز الحكيم أي: الذي أخبركم عن عزته وحكمته في غزوة بدر بما يليق بذلك المقام من التأكيد، وأخبركم أنكم إن فاديتم الأسرى قتل منها في العام المقبل مثل عددهم، فوقوع الأمر على ما قال مغن عن التأكيد، ولم يكن أحد من المسلمين في أحد مترددا في اللقاء ولا هائبا له إلا ما وقع من الهم بالفشل من الطائفتين والعصمة منه في الحال، وقد مضى في آل عمران لهذا مزيد بيان.