ولما أمرهم بالثقة بهذا الكتاب ما نسخ منه وما لم ينسخ وأن
[ ص: 108 ] لا يعوقهم عنه طعن الطاعنين ولا حسد الحاسدين وأمرهم بالإعراض عن الغير أمرهم بالإقبال على إصلاح النفس والإحسان إلى الغير مما اتصف به المهتدون في قوله تعالى :
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ولما كان المقصود من الصلاة قصر الهمة والنية على الحضرة الإلهية وتفريغ البال من جميع الشواغل علم أن التقدير بعد الختم بشمول القدرة فاعلموا ذلك وثقوا به ،
وأقيموا الصلاة : التي هي مع كونها سنبتليكم في قبلتها بالنسخ قوام الدين والمعينة على جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرب إليه ،
وآتوا الزكاة التي هي قرينة الصلاة ، فمن فرق بينهما فقد نسخ ما أثبت الله فاستحق القتال ليرجع عما ارتكب من الضلال ، وهي من
أعظم نفقات المؤمنين إحسانا إلى الخلائق إن كنتم مصلين بالحقيقة ، فإن المال بعض
[ ص: 109 ] ما صرفت عنه الصلاة من أعراض الدنيا .
ولما كان قوله :
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وما بعده خطابا للمؤمنين تحذيرا من كيد أعدائهم بالنهي عما يرديهم والأمر بما ينجيهم وختمه بهذه الآية فذلكة لذلك كله جميعا لمعانيه وفتحها برأس العبادات البدنية والمالية وكانت "ال" مشيرة إلى الواجب من ذلك ختم الآية نفسها بالأمر العام الجامع ، فقال :
وما تقدموا لأنفسكم من خير أي : من الصلاة والزكاة وغيرهما فرضا ونفلا ،
تجدوه وزاد ترغيبا فيه بقوله :
عند الله أي : الجامع لصفات الكمال ، فهو يحفظه بما له من العلم والقدرة ويربيه بما له من الكرم والرحمة إلى غير ذلك من أمور الفضل .
ولما كان الشيء قد يهمل لكونه صغيرا وقد لا يطلع عليه لكونه خفيا حقيرا قال مرغبا مرهبا :
إن الله المحيط قدرة وعلما ،
بما تعملون بصير وأظهر الاسم في موضع الإضمار إشعارا بالاستئناف للخير ليكون ختما جامعا ; لأنه لو عاد على خصوص هذا الخطاب لكان "إنه" ، وذلك لأن تجديد الإظهار يقع بمعنى رد
[ ص: 110 ] ختم الخطاب على إحاطة جملته ، قاله الحرالي . والمعنى : أنه لو أضمر لكان ربما أفهم تقيد علمه بحيثية ما تقدم من عمل الخير ; وعلى مثل هذا دل قول
العلامة شمس الدين الغزي في أول شرحه لإيساغوجي : الغالب في المضمر إرادة المعنى الأول ، وأما حديث : إعادة الشيء معرفة . فأصل يعدل عنه كثيرا للقرائن .