ولما ذكرهم سبحانه ما أوجب نصرهم آمرا لهم بالثبات عليه، ذكر لهم حال أعدائهم الذي أوجب قهرهم ناهيا عنه تعريضا بحال المنازعة في الأنفال وأنها حال من يريد الدنيا، ويوشك - إن تمادت - أن تجر إلى مثل حال هؤلاء الذين محط نظرهم الدنيا فقال:
ولا تكونوا أي: يا معشر
[ ص: 296 ] المؤمنين
كالذين وصور قبح عملهم من أوله إلى آخره فقال:
خرجوا من ديارهم أي: كل واحد من داره وهم أهل
مكة، وكل من عمل مثل عملهم كان مثلهم، ولذا عبر بالوصف ليعم
بطرا أي: طغيانا وتكبرا على الحق، ومادة بطر - بأي ترتيب اتفق - تدور على اللين القابل للعمل حتى ربط، فإنه لولا الضعف ما استوثق من المربوط، ومنه بطر الجرح - وهو شقه - والبيطار، وتارة يكون ذلك اللين عن دهش. ومنه أبطرت حلمه أي: أدهشته عنه، وذهب دمه بطرا أي: باطلا للضعف عنه للحيرة في الأمر الموصل إليه، وتارة يكون عن مجاوزة الحد في الصلابة، ومنه
بطر النعمة - إذا لم يشكرها فتجاوز الحد في المرح، فإن فاعل ذلك يمكنه الحكيم من مقاتله فيأخذه وهو يرجع إلى عدم احتمال القوى للشكر، ففاعل ذلك ضعيف وإن ظهر منه خلاف ذلك كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه: العدل وإن رئي لينا أكف عن الظلم من الجور وإن رئي شديدا - أو كما قال رضي الله عنه. وأقرب من ذلك أن تكون المادة دائرة على الخلطة الناقلة من حال إلى حال.
ولما ذكر الحامل لهم على الخروج من أنفسهم، ذكر ما أوجبه لهم من غيرها فقال:
ورئاء الناس أي: خرجوا يرون الناس
[ ص: 297 ] خروجهم وما يتأثر عنه ليروهم ما يقولون فيه، فإنهم لما قيل لهم: قد نجى الله عيركم فارجعوا، بطروا النعمة تبعا
لأبي جهل حيث قال: والله لا نرجع حتى نرد
بدرا فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبدا! فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا الحمر، وناحت عليهم نوائح الزمان مكان العزف والقيان.
ولما ذكر نفس الخروج وما فيه من الفساد وذكر ثمرته الخبيثة الناشئة عن ذينك الخلقين، وعبر عنهما بالاسم إشارة إلى الثبات كما هو شأن الأخلاق، وعن الثمرة بالمضارع تنبيها على أنهم لا يزالون يجددونها فقال:
ويصدون أي: يوجدون الصد وهو المنع لأنفسهم وغيرهم
عن سبيل الله أي: الملك الأعظم في ذلك الوجه وهم عازمون على تجديد ذلك في كل وقت، فلما كانت هذه مقاصدهم كان نسجهم هلهلا وبنيانهم واهيا، فإنها من عمل الشيطان، وكل عمل لا يكون لله إذا صدم بما هو لله اضمحل، بذلك سبحانه أجرى سنته ولن تجد لسنته تحويلا، فإن العاملين عبيد الله
والله أي: فعلوا ذلك والحال أن المحيط بكل شيء الذي عادوا أولياءه
بما أو يكون ذلك معطوفا على تقديره: فأبطل الله بجلاله وعظمته أعمالهم وهو بكل ما
يعملون محيط فهم في قبضته، فأوردهم - إذ خرجوا يحادونه - بدرا فنحر مكان الجزور رقابهم وسقاهم مكان الخمور كؤوس المنايا، وأصاح عليهم مكان القيان صوائح النوائح، ولعله قدم الجار إشارة إلى أنه لشدة إحاطته بأعمالهم كأنه
[ ص: 298 ] لا نظر له إلى غيرها فلا شاغل له عنها.