ولما تقدم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى:
ما لكم إذا قيل لكم انفروا - الآية. ثم
الجزم بالأمر بالجهاد بالنفس والمال في قوله:
انفروا خفافا وثقالا الآية. وكان أمره تعالى كافيا للمؤمن الذي صدق إيمانه بالإسلام في امتثاله لذلك في منشطه ومكرهه، وكان كثير منهم قد فعلوا بتثاقلهم ما يقدح في
[ ص: 23 ] إيمانهم طعما في ستره بمعاذيرهم وإيمانهم، اقتضى المقام تبكيت المتثاقلين وتأنيب المنافقين على وجه مهتك لأستارهم مكشف لأسرارهم. فلما استوفى تعالى في ذلك أقسامهم، ونكس ألويتهم وأعلامهم، وختمهم بهذه الطائفة التي ظهر فيها امتثاله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:
جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم بأن هد مسجدهم وحرقه بالنار وأزال بنيانه وفرقه وقد أديمه عن جديد الأرض ومزقه، أتبع ذلك سبحانه بتذكير المؤمنين ما أمرهم به في قوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وقوله:
انفروا خفافا وثقالا ليفعلوا فيه ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، فساق مساق الجواب لسؤال من كأنه قال: لقد طال المدى وعظم الخطب في هذه السورة في إبانة الفضائح وهتك السرائر وإظهار القبائح، فلم فعل ذلك وقد جرت عادته بالأمر بالستر وأخذ العفو؟ قوله:
إن الله أي الملك الذي لا ملك في الحقيقة غيره، ولا يخشى إلا عذابه، ولا يرجى إلا خيره،
اشترى [أي] بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة، ولذلك عبر بما يدل على اللجاج فيها فقال:
من المؤمنين أي بالله وما جاء من عنده، وقدم النفس إشارة إلى المبايعة سابقة على اكتساب المال فقال مقدما للأعز:
أنفسهم أي التي تفرد بخلقها
وأموالهم أي التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم.
[ ص: 24 ] ولما ذكر المبيع أتبعه الثمن فقال:
بأن لهم الجنة أي خاصة بهم مقصورة عليهم، لا يكون لغير مؤمن، فميزهم حتى يقابل كل بما يستحقه، فكأنه قيل: اشترى منهم ذلك بماذا؟ فقيل:
يقاتلون في سبيل الله أي [الملك الأعلى] بسبب دينه الذي لا يرضى غيره، قتالا يكون الدين محيطا به وظرفا، فلا يكون فيه شائبة لغيره; ثم سبب عن ذلك ما هو حقيق به، فقال:
فيقتلون ويقتلون أعم من يكون ذلك بالقوة أو بالفعل، فيخصهم بالجنة كما وعدهم، وقراءة
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بتقديم المبني للمفعول «أمدح»، لأن من طلب الموت - لا يقف له خصمه، فيكون المعنى: فطلبوا أن يكونوا مقتولين فقتلوا أقرانهم، ويجوز أن يكون النظر إلى المجموع فيكون المعنى أنهم يقاتلون بعد رؤية مصارع أصحابهم من غير أن يوهنهم ذلك، وعن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الآية قال: بيع والله مربح! لا نقيل ولا نستقيل، فخرج إلى الغزو فاستشهد.
ولما كان القتل لكونه سببا للجنة بشارة ووعدا، أكد ذلك بقوله:
وعدا وزاده بحرف الإيجاب فقال:
عليه وأتم التأكيد بقوله:
حقا ولما أكد هذه المبايعة الكريمة هذه التأكيدات العظيمة زاد ذلك بذكره في جميع الكتب القديمة فقال:
في التوراة [ ص: 25 ] كتاب موسى عليه السلام
والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام
والقرآن أي الكتاب الجامع لكل ما قبله ولكل خير، وهؤلاء المذكورون في هذه السورة كلهم ممن ادعى الإيمان وارتدى به حلل الأمان، ثم إنهم فعلوا بتخلفهم عن الإقباض وتوقفهم عن الإسراع والإيقاض وغير ذلك من أقوالهم ومساوئ أفعالهم فعل الكاذب في دعواه أو الشاك أعم من أن يكون كذب بالآخرة المشتملة على الجنة أو يكون شك في وعد الله بإيراثهم إياها أو بتخصيصهم بها، وجوز أن يدخلها غيرهم، وطمع أن يكون هو ممن يدخلها مع التكذيب، والله تعالى منزه عن جميع ذلك وهو وفي بعهده
ومن أي وعد بذلك والحال أنه أوفى المعاهدين فهو مقول فيه على طريق الاستفهام الإنكاري: من
أوفى بعهده من الله أي الذي له جميع صفات الكمال؛ لأن الإخلاف لا يقدم عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق.
ولما كان ذلك سببا للتبشير، لأنه لا ترغيب في الجهاد أحسن منه، قال مهنئا لهم:
فاستبشروا أي فأوجدوا في نفوسكم غاية البشر يا معاشر المجاهدين، ولما ذكره في ابتداء العقد يدل على التأكيد، ذكره في آخره بلفظ يدل على السعة إشارة إلى سعة الجزاء فقال:
ببيعكم الذي بايعتم [ ص: 26 ] أي: أوقعتم المبايعة لله
به فإنه موفيكم لا محالة فذلك هو الأجر الكريم
وذلك أي إيراثكم الجنة وتخصيصكم بها
هو أي خاصة لا غيره
الفوز العظيم فالحاصل أن هذه الآية واقعة موقع التعليل للأمر بالنفر بالنفس والمال.