ولما علمت المقاصد وتهيأت القلوب [لقبول] الفوائد، وأمر بالإنذار بالفقه، وكان من الناس من لا يرجع إلا بشديد البأس، أقبل على الكل مخاطبا لهم بأدنى أسنان القلوب ليتوجه إلى الأدنى ويتناول الأعلى منه من باب الأولى فقال:
يا أيها الذين آمنوا أي ادعوا بألسنتهم الإيمان
قاتلوا أي: تصديقا لدعواكم ذلك
الذين يلونكم أي: يقربون منكم
من الكفار فالذين يلونهم إن لم تروا غيره أصلح لمعنى يعرض لما في ذلك من حسن الترتيب ومقتضى الحكمة، ولأن الجهاد معروف وإحسان، والأقربون أولى بالمعروف، ولتبعدوا العدو عن بلادكم فيكثر صلاحهم ويقل فسادكم وتكونوا قد جمعتم بالتفقه والقتال بين الجهادين: جهاد الحجة وجهاد السيف مع الاحتراس بهذا الترتيب من أن يبقى وراءكم إذا قاتلتم من تخشون كيده.
ولما كانت الملاينة أولى بالمسالمة، والمخاشنة أولى بالمصارمة، قال:
وليجدوا من الوجدان
فيكم غلظة أي شدة وحمية؛ لأن ذلك أهيب في صدورهم.
[ ص: 50 ] وأكف عن فجورهم، وحقيقة الغلطة في الأجسام، استعيرت هنا للشدة في الحرب، وهي تجمع الجراءة والصبر على القتال وشدة العداوة، فإذا فعلوا ذلك كانوا جامعين بين جهاد الحجة والسيف كما قيل:
من لا يعدله القرآن كان له من الصغار وبيض الهند تعديل
نبه على ذلك أبو حيان.
ولما كان التقدير: وليكن كل ذلك مع التقوى لا بسبب مال ولا جاه فإنها ملاك الأمر كله، قال منبها على ذلك بقوله:
واعلموا أن الله أي الذي له الكمال كله
مع المتقين فلا تخافوا أن يؤدي شيء من مصاحبتها إلى وهن؛ فإن العبرة بمن كان الله معه.