وهذا كما أتى
موسى عليه السلام إلى
فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له: إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين، فلما أتاه بها استمر على تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيبا، وكان
فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره، ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال: [دالا على الطبع]:
ثم بعثنا أي: وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال:
من بعدهم أي: من بعد أولئك الرسل
[ ص: 169 ] موسى وكذا بعثنا " هارون " تأييدا له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه; ولما استقر في الأذهان بما مضى أن
ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حسدا له ونفاسة عليه . كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب، فقال مقدما لقوله:
إلى فرعون وملئه أي الأشراف من قومه، فإن الأطراف تبع لهم
بآياتنا [أي] التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا، فطبعنا على قلوبهم
فاستكبروا أي: طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك
وكانوا أي: جبلة وطبعا
قوما مجرمين أي: طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضا من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين: " هذا سحر مبين " في نسبة
موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطيه لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق، وأنه لم ينفع أحدا من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، بل ما آمن
لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، ثم أتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه، وتلاشت من تجبره قواه، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال،
[ ص: 170 ] ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال، لما قدره عليه ذو الجلال، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة
موسى عليه السلام، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء
موسى عليه السلام على منهاج واحد. فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم، ولهذا المراد ذكر هنا
هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن يعد الإيمان عند الإتيان بها، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته، كل ذلك حثا على الرضا والتسليم، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم، فمهما أمر به قبل، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير.