ولما ذكر السجن، وكان سببا ظاهرا في الإهانة، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة، كل ذلك بيانا للغلبة على الأمر والاتصاف بصفات القهر، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي
ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم، فقال تعالى:
ودخل أي فسجنوه كما بدا لهم
[ ص: 80 ] ودخل
معه السجن فتيان خباز الملك وساقيه، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه، وظن أن الساقي مالأه على ذلك، و "مع" تدل على الصحبة واستحداثها، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد - قاله
أبو حيان ، فلما دخلوا السجن كان
يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويهديهم إلى الخير، ويذكرهم بالله، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما جباه الله [به -] من الفضل والنبل وحسن الخلق والخلق، وكان في السجن ناس قد انقطع رجاءهم واشتد بلاءهم، فلم يزل يرفق بهم حتى قالوا: بارك الله فيك! ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك، ما نحب أنا كنا في غير هذا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والثواب والطهارة، من أنت يا فتى؟ فأخبرهم بنسبه الشريف، فقال عامل السجن: لو استطعت لخليت سبيلك! ولكن سأحسن جوارك وإيثارك، وأحبه الفتيان ولزماه فقال: أنشدكما الله أن تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل علي من جهته بلاء! لقد أحبتني عمتي فدخل علي من جهتها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل علي من جهته بلاء،
[ ص: 81 ] ثم أحبتني زوجة صاحبي [هذا -] فدخل علي من جهتها بلاء، فلا تحباني، فأبيا إلا حبه، فكأنه قيل: أي شيء اتفق لهما بعد الدخول معه؟ فقيل:
قال أحدهما ليوسف عليه الصلاة والسلام، ولعل التأكيد إما لأنه كانت عادتهما المزح، وإما لأنهما ما رأيا شيئا - كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي - وإنما صنفا هذا ليختبراه [به -]
إني أراني حكى الحال الماضية في المنام "أعصر" والعصر: الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه
خمرا أي عنبا يؤل إلى الخمر "وقال الآخر" مؤكدا لمثل ما مضى
إني أراني أحمل والحمل: رفع الشيء بعماد نقله
فوق رأسي خبزا أي طعاما مهيأ للأكل بالخبز، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حام بالنار حتى يصلح للأكل
تأكل الطير منه وسيأتي شرح الرؤيا من التوراة، فكأنه قيل: فماذا تريدان من الإخبار بهذا؟ فقالا: "نبئنا" أي أخبرنا إخبارا عظيما
بتأويله أي ما يرجع أمره ويصير إليه، فكأنه قيل: وما يدريكما أني أعرف تأويله؟ فقالا:
إنا نراك على حال علمنا بها علما هو كالرؤية أنك
من المحسنين أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياسا،