ولما اشتملت هذه السورة على ما قرع سمعك من هذه المواعظ والأمثال والحكم التي أبكمت البلغاء، وأخرست الفصحاء، وبهرت العقول، ترجمها سبحانه بما يصلح عنوانا لجميع القرآن فقال:
هذا أي الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور
بلاغ أي كاف غاية الكفاية في الإيصال
للناس ليصلوا به إلى الله بما يتحلون به من المزايا في سلوك صراطه القويم، فإن مادة "بلغ" بأي ترتيب كان - تدور على الوصول، وتارة تلزمها القوة وتارة الإعياء الناشئ عن الضعف:
[ ص: 442 ] بلغ المكان بلوغا: وصل إليه; وبلغ الرجل - كعني: جهد، والبليغ: الفصيح يبلغ بعبارته كنه ضميره، والبلاغ - كسحاب: الكفاية، لأنها توصل إلى القصد، وبالغ مبالغة - إذا اجتهد ولم يقصر، وتبلغت به العلة: اشتدت.
والغلباء: الحديقة المتكاثفة، ومن القبائل: العزيزة الممتنعة، والأغلب: الأسد.
ولغب: أعيا - لاجتهاده في البلوغ، واللغب: ما بين الثنايا من اللحم، واللغب - ككتف: الكلام الفاسد - يرجع إلى الإعياء، وكذا الضعيف الأحمق، والسهم الذي لم يحسن بريه كاللغاب - بالضم، والتغلب: طول الطرد.
والبغل من أشد الحيوان وأبلغها للقصد، وبغل تبغيلا: بلد وأعيا، والإبل: مشت بين الهملجة والعنق.
ولما كان متعلق البلاغ الذي قدرته بالوصول يتضمن البشارة، عطف عليه النذارة بانيا للمفعول، لأن النافع مطلق النذارة، وكل أحد متأهل
[ ص: 443 ] لأن يكون واعظا به مقبولا، لأن من سمعه فكأنما سمعه من الله لتميزه بإعجازه عن كل كلام، فقال:
ولينذروا أي من أي منذر كان فيقوم عليهم الحجة
به فيحذروا عقاب الله فيتخلوا عن الدنايا.
ولما أشار إلى جميع الفروع فعلا وتركا، مع إشارته إلى
أصل التوحيد لأنه أول الوصول، صرح به على حدته لجلالته في قوله:
وليعلموا أنما هو أي الإله
إله واحد فيكون همهم واحدا.
ولما تمت الإشارة إلى الدين أصلا وفرعا، نبه على المواعظ والأمثال بتذكر ما له من الآيات والمصنوعات، والبطش بمن خالفه من الأمم، وأشار إلى أن
أدلة الوحدانية والحشر لا تحتاج إلى كبير تذكر ، لأنها في غاية الوضوح ولا سيما بعد تنبيه الرسل، فأدغم تاء التفعل، فقال:
وليذكر أي منهم
أولو الألباب أي الصافية، والعقول الوافية، فيفتحوا عيون بصائرهم فيعلموا أنه لا وصول لهم مع الغفلة فيلزموا المراقبة فلا يزالوا في رياض المقاربة. ويعلموا - بما ركز في طبائعهم وجرى من عوائدهم - أن أقل حكامهم لا يرضى بأن يدع رعيته يتهارجون
[ ص: 444 ] لا ينصف بينهم ولا يجزى أحدا منهم بما كسب، فيكون ذلك منه انسلاخا من رتبة الحكم التي هي خاصته، فكيف يدعون ذلك في أحكم الحاكمين، فقد تكفلت هذه الآية على وجازتها [بجميع علم الشريعة أصولا وفروعا، وعلم الحقيقة نهايات وشروعا، على سبيل الإجمال -] وقد انطبق آخر السورة على أولها، لأن هذا عين الخروج من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الحامل على كل صواب - والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وحسن المآب.