ولما طرق لهم - سبحانه - الاحتمال؛ كان كأنه قيل: هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له؟ فقيل: بل استمروا على عنادهم؛ فقال - مستأنفا؛ ملتفتا إلى ما أشار إليه في أول سورة "إبراهيم"؛ في قوله:
الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ؛ من المانع لهم عن الإذعان -:
ذرهم ؛ يا أعز الخلق عندنا؛ كالبهائم؛
يأكلوا ويتمتعوا ؛ والتمتع: التلذذ؛ وهو طلب اللذة حالا بعد حال؛ كالتقرب في أنه طلب القرب حالا بعد حال؛
ويلههم ؛ أي: يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة؛
الأمل ؛ أي: رجاؤهم طول العمر؛ وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ؛ من غير سبب مهيئ لذلك.
ولما كان هذا أمرا لا يشتغل به إلا أحمق؛ سبب عنه التهديد؛ بقوله:
فسوف يعلمون ؛ أي: ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع؛ وقال الإمام
أبو جعفر بن الزبير؛ في برهانه: لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة "إبراهيم"؛ من لدن قوله - سبحانه -:
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ؛ إلى خاتمتها؛ أعقب ذلك
[ ص: 16 ] بقوله:
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ؛ أي: عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل؛ ثم قال (تعالى) - تأكيدا لذلك الوعيد -:
ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ؛ ثم أعقب (تعالى) هذا ببيان ما جعله سنة في عباده؛ من ارتباط الثواب والعقاب؛ معجلة؛ ومؤجلة؛ بأوقات وأحيان؛ لا انفكاك لها عنها؛ ولا تقدم ولا تأخر؛ إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت؛ والعالم؛ بجملتهم؛ لله (تعالى)؛ وفي قبضته؛ لا يفوته أحد منهم؛ ولا يعجزه؛ وقال (تعالى):
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ؛ وكان هذا يزيد إيضاحا قوله - عز وجل -:
إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ؛ وقوله:
وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ؛ وقوله:
يوم تبدل الأرض غير الأرض ؛ الآية; وتأمل نزول قوله:
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ؛ على هذا؛ وعظيم موقعه في اتصاله به؛ ووضوح ذلك كله؛ وأما افتتاح السورة بقوله:
الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ؛ فإحالة على أمرين واضحين: أحدهما ما نبه به - سبحانه - من الدلائل والآيات؛ كما يفسر؛ والثاني ما بينه القرآن المجيد؛ وأوضحه؛ وانطوى عليه من الدلائل والغيوب؛ والوعد؛ والوعيد؛ وتصديق بعض ذلك بعضا؛ فكيف لا يكون
[ ص: 17 ] المتوعد به في قوة الواقع المشاهد؛ لشدة البيان في صحة الوقوع؟ فالعجب من التوقف والتكذيب! ثم أعقب هذا بقوله:
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ؛ انتهى.