ولما كان الشجر عاما؛ شرع - سبحانه - يفصله تنويعا للنعم؛ وتذكيرا بالتفاوت؛ إشارة إلى أن الفعل بالاختيار؛ فقال - مبتدئا بالأنفع في القوتية؛ والائتدام؛ والتفكه -:
ينبت ؛ أي: هو - سبحانه -؛
لكم ؛ أي: خاصة؛
به ؛ مع كونه واحدا في أرض واحدة؛
الزرع ؛ الذي تشاهدونه؛ من أقل الشجر مكثا؛ وأصغره قدرا؛
والزيتون ؛ الذي ترونه؛ من أطول الأشجار عمرا؛ وأعظمها قدرا.
ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر؛ سماه باسمه؛ فقال (تعالى):
والنخيل ؛ ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة؛ قال (تعالى):
والأعناب ؛ وهما من أوسط ذلك؛
ومن كل الثمرات ؛ وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة؛ وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل؛ مذكر به؛ ومشوق إليه؛
إن في ذلك ؛ أي: الماء العظيم؛ المحدث عنه؛ وعن فروعه؛ أو في إنزاله على الصفة المذكورة؛
لآية ؛ بينة؛ على أن فاعل ذلك تام القدرة؛ يقدر على الإعادة؛ كما قدر على الابتداء؛
[ ص: 119 ] وأنه مختار؛ يفعل ذلك في الوقت الذي يريده.
ولما كان ذلك ممن يحس؛ وكان شغل الحواس بمنفعته - لقربه؛ وسهولة ملابسته - ربما شغل عن الفكر في المراد به؛ فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل؛ ودقة نظر؛ قال (تعالى):
لقوم يتفكرون ؛ أي: في أن وحدته؛ وكثرة ما يتفرع عنه؛ دليل على وحدة صانعه؛ وفعله بالاختيار؛ وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه؛ وهو الماء - كما قال (تعالى) - في آية:
يسقى بماء واحد ؛ وسيأتي في آية النحل كلام الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14085أبي الحسن الحرالي في هذا.
وقال الإمام
أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة في التحامها بسورة "الحجر"؛ مثل "الحجر" بسورة "إبراهيم"؛ من غير فارق؛ لما قال (تعالى):
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ؛ وقال (تعالى) - بعد ذلك في وعيد المستهزئين -:
فسوف يعلمون ؛ أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر؛ فقال (تعالى):
أتى أمر الله فلا تستعجلوه ؛ وزاد هذا بيانا قوله:
سبحانه وتعالى عما يشركون ؛ فنزه - سبحانه - نفسه عما فاهوا به في استهزائهم؛ وشركهم؛ وعظيم بهتهم؛ وأتبع ذلك تنزيها وتعظيما؛ فقال (تعالى):
خلق السماوات [ ص: 120 ] والأرض بالحق تعالى عما يشركون ؛ ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان؛ وضعف جبلته؛
خلق الإنسان من نطفة ؛ ثم أبلغه (تعالى) حدا يكون فيه الخصام والمحاجة؛ كل ذلك ابتلاء منه؛ واختبارا؛ ليميز الخبيث من الطيب؛ وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه في خلق الأنعام؛ وما جعل فيها من المنافع المختلفة؛ وما هو - سبحانه - عليه من الرأفة؛ والرحمة؛ اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها؛ وهدى من لم يستحق الهداية بذاته؛ بل كل هداية فبرأفة الخالق؛ ورحمته؛ ثم أعقب ما ذكره بعد؛ من خلق الخيل؛ والبغال؛ والحمير؛ وما في ذلك كله؛ بقوله:
ولو شاء لهداكم أجمعين ؛ فبين أن
كل الواقع؛ من هداية وضلال؛ خلقه وفعله؛ وأنه أوجد الكل من واحد؛ وابتدأهم ابتداء واحدا؛
خلق الإنسان من نطفة ؛ فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك؛ فقد أرانا - سبحانه - مثال هذا الفعل؛ ونظيره؛ في قوله:
هو الذي أنـزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر ؛ إلى قوله:
لآية لقوم يتفكرون ؛ انتهى.