ولما كان ما مضى موضعا للتفكر المنتج للعلم بوحدة الصانع؛ واختياره؛ وكان التفكر في ذلك مذكرا بما بعده من سر التفاوت في اللون الذي لا يمكن ضبط أصنافه على التحرير؛ وكان في ذلك تمام إبطال القول بتأثير الأفلاك والطبائع؛ لأن نسبتها إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة؛ والحبة الواحدة؛ واحدة؛ قال (تعالى) - عطفا على "الليل" -:
وما ذرأ ؛ أي: خلق؛ وبث؛ وفرق التراب والماء؛
لكم ؛ أي: خاصة؛ فاشكروه؛ واعلموا أنه ما خصكم بهذا التدبير العظيم إلا لحكم كبيرة؛ أجلها إظهار جلاله يوم الفصل؛
في الأرض ؛ أي: مما ذكر؛ ومن غيره؛ حال كونه
مختلفا ألوانه ؛ حتى في الورقة الواحدة؛ فترى أحد وجهيها - بل بعضه - في غاية الحمرة؛ والآخر في غاية السواد؛ أو الصفرة؛ ونحو ذلك؛ فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار؛ فعلم قطعا أنه إنما هو قادر؛ مختار؛ ولم يذكر
[ ص: 123 ] اختلاف الصور؛ لأن دلالتها - لأجل اختلاف أشكال النجوم؛ من السماء؛ وصور الجبال؛ والروابي؛ والوهاد من الأرض - ليست على إبطال الطبيعة كدلالة اختلاف اللون.
ولما كان ذلك - وإن كان خارجا عن الحد في الانتشار - واحدا من جهة كونه لونا؛ وحد الآية؛ فقال:
إن في ذلك ؛ الذي ذرأه في هذه الحال؛ على هذا الوجه العظيم؛
لآية ؛ ولما نبه في التي قبلها على أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتاج معه إلى غير بديهة العقل؛ نبه هنا على أن ذلك معلوم طرأ عليه النسيان والغفلة؛ حثا على بذل الجهد في تأمل ذلك؛ وإشارة إلى أن دلالته على المقصود في غاية الوضوح؛ فقال:
لقوم يذكرون ؛ ولو لم يمعنوا؛ بما أفاده الإدغام; و"التذكر": طلب المعنى بالتفكر في متعلقه؛ فلا بد من حضور معنى يطلب به غيره؛ وقد رتب - سبحانه - ذلك أبدع ترتيب؛ فذكر الأجسام المركبة عموما؛ ثم خص الحيوان؛ ثم مطلق الجسم النامي؛ وهو النبات؛ ثم البسائط؛ من الماء ونحوه؛ ثم الأعراض؛ من الألوان.