ولما ذكر الأغوار الهابطة؛ الضابطة للبحار؛ أتبعها الأنجاد الشداد؛ التي هي كالأوتاد؛ تذكيرا بما فيها من النعم؛ فقال:
وألقى في الأرض ؛ أي: وضع فيها وضعا؛ كأنه قذفه فيها قذفا؛ جبالا؛
رواسي ؛ مماسة لها؛ ومزينة لنواحيها؛ كراهة
أن تميد ؛ أي: تميل مضطربة يمينا وشمالا؛ أي: فيحصل لكم الميد؛ وهو دوار يعتري راكب البحر؛
بكم ؛ فهي ثابتة لأجل ذلك الإلقاء؛ ثابتة مع اقتضائها بالكرية التحرك.
ولما ذكر الأوهاد؛ وأتبعها الأوتاد؛ تلاها بما تفجره غالبا منها؛ عاطفا على "رواسي"؛ لما تضمنه العامل من معنى "جعل"؛ فقال:
وأنهارا ؛ وأدل دليل على ثبات الأرض ما سبقها من ذكر البحار؛ ولحقها من الحديث عن الأنهار؛ فإنها لو تحركت؛ ولو بمقدار شعرة في كل يوم؛ لأغرقت البحار من إلى جانب الانخفاض؛ وتعاكست مجاري الأنهار؛
[ ص: 127 ] فعادت منافعها أشد المضار؛ ولو زادت البحار؛ بما تصب فيها الأنهار؛ على مر الليل؛ وكر النهار؛ لأغرقت الأرض؛ ولكنه (تعالى) دبر الأمر بحكمته تدبيرا تعجز عن الاطلاع على كنهه أفكار الحكماء؛ بأن سلط حرارة الشمس على الأرض في جميع مدة الصيف؛ وبعض غيره من الفصول؛ فسرت في أغوارها؛ وحميت في أعماقها في الشتاء؛ فأسخنت مياه البحار وغيرها؛ فتصاعدت منها بخارات؛ كما يتصاعد من القدر المغلي؛ بقدر ما صبت فيها الأنهار؛ فانعقدت تلك البخارات في الجو مياها لما بردت؛ فنزل منها المطر؛ فأحيا الأرض بعد موتها؛ وتخلل أعماقها منه ما شاء الله؛ فأمد الأنهار؛ ولذلك تزيد بزيادة المطر؛ وتنقص بنقصه؛ وهكذا في كل عام؛ فأوجب ذلك بقاء البحر على حاله؛ من غير زيادة؛ فسبحان المدبر الحكيم العزيز العليم؛ ولما ذكر ذلك؛ أتبعه ما يتوصل به إلى منافع كل منه؛ فقال (تعالى):
وسبلا
ولما كانت الجبال؛ والبحار؛ والأنهار أدلة على السبل الحسية؛ والمعنوية؛ قال (تعالى):
لعلكم تهتدون ؛ أي: يحصل الاهتداء؛ فتهتدوا إلى مقاصدكم.