ولما كان أمر النحل في الدلالة على تمام القدرة؛ وكمال الحكمة؛ أعجب مما تقدم وأنفس؛ ثلث به؛ وأخره؛ لأنه أقل الثلاثة عندهم؛ وغير الأسلوب؛ وجعله من وحيه؛ إيماء إلى ما فيه من غريب الأمر؛ وبديع الشأن؛ فقال (تعالى):
وأوحى ربك ؛ أي: المحسن إليك؛ بجعل العسل في مفاوز البراري المقفرة؛ المفرطة المرارة؛ وغيرها
[ ص: 197 ] من الأماكن؛ وبغير ذلك من المنافع؛ الدال على الفعل بالاختيار؛ وتمام الاقتدار؛
إلى النحل ؛ أي: بالإلهام; قال
الرازي؛ في "اللوامع": فالله (تعالى) أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؛ فبعضها بالتسخير المجرد؛ كالجمادات؛ وبعضها بالإلهام؛ والتسخير؛ كالنحل؛ والسرفة - ؛ أي: بضم وسكون؛ وهي دويبة تتخذ بيتا من دقاق العيدان؛ فتدخله؛ وتموت - والعنكبوت؛ وبعضها بالتسخير؛ والإلهام؛ والعقل المتفق على نظام واحد؛ كالملائكة؛ وبعضها بكل ذلك؛ والفكر؛ والتمييز؛ والأعمال المختلفة المبنية على الفكر؛ كالإنسان.
ولما كان في الإيحاء معنى القول؛ أتى بـ "أن"؛ المفسرة؛ فقال (تعالى):
أن اتخذي ؛ أي: افعلي ما يفعله المتكلف؛ من أن يأخذ
من الجبال بيوتا ؛ أي بيوت! ما أعجبها!
ومن الشجر ؛ أي: الصالحة لذلك؛ في الغياض؛ والجبال؛ والصحاري؛
ومما يعرشون ؛ أي: يرفع الناس من السقوف؛ والجدران؛ وغيرها؛ وبدأ بالبيوت لأنها من عجب الدهر في حسن الصنعة؛ وبداعة الشكل؛ وبراعة الإحكام؛ وتمام التناسب.