ولما تبين بهذه الآية - كما مضى تقريره في "الأنعام" - جميع المحرم أكله من الحيوانات؛ فعلم بذلك جهلهم فيما حرموه على أنفسهم لأجل أصنامهم؛ صرح بالنهي عنه؛ إبلاغا في تأكيد ذلك الحصر؛ فقال (تعالى):
ولا تقولوا ؛ أي: بوجه من الوجوه؛ في وقت ما؛ ولما كان تحليلهم؛ وتحريمهم؛ قولا فارغا ليس له حقيقة أصلا؛ لأنه لا دليل عليه؛ عبر عنه بأنه وصف باللسان؛ لا يستحق أن يدخل إلى القلب؛ فقال (تعالى):
لما تصف ؛ أي: لأجل الذي تصفه؛
ألسنتكم ؛ أي: من الأنعام؛ والحروث؛ والزروع؛ ولما حرك النفس إلى معرفة ما يقال لأجل ذلك؛ بين مقول ذلك القول؛ فقال (تعالى):
الكذب ؛ أي: القول الذي هو عين الكذب.
ولما اشتد التشوف إلى تعيين ذلك المقول؛ أبدل منه؛ فقال (تعالى):
هذا حلال وهذا حرام ؛ ويجوز أن يكون "الكذب"؛ مفعول "تصف"؛ فتكون "ما"؛ مصدرية؛ أي: لوصفها إياه؛ فكأن
[ ص: 270 ] حقيقة الكذب كانت مجهولة؛ فلم تعرف إلا بوصف ألسنتهم لها؛ فهو مبالغة في وصف كلامهم بالكذب؛ وما بعده مقول القول.
ولما كانوا - كما تقدم يدعون أنهم أعقل الناس؛ فكان اللائق بهم - إرخاء للعنان - النسبة إلى معرفة اللوازم عند الإقدام على الملزومات؛ قال (تعالى):
لتفتروا على الله ؛ أي: الملك الأعلى؛
الكذب ؛ لأن من قال على أحد ما لم يأذن فيه؛ كان قوله كذبا؛ وكان كذبه لقصد افتراء الكذب؛ وإلا لكان في غاية الجهل؛ فدار أمرهم في مثل هذا بين الغباوة المفرطة؛ أو قصد ما لا يقصده عاقل؛ وهذا باب من التهكم عجيب؛ فكأنه قيل: فما يستحقون على ذلك؟ فأجاب بقوله (تعالى):
إن الذين يفترون ؛ أي: يقتطعون عمدا؛
على الله ؛ أي: الذي له الأمر كله؛
الكذب ؛ منكم؛ ومن غيركم؛
لا يفلحون