ولما قرر أن هذا شأنه؛ إذا أراد أن يهلك؛ أخبر أنه فعل ذلك بمن لا يحصيهم العد من القرون؛ ولا يحيط بهم الحد من الأمم؛ لأن الاعتبار بالمشاهد أوقع في القلب؛ وأهول عند النفس؛ فكأنه قال: كم فعلنا ذلك بالقرى؛ ولم نستعجل في إهلاك قرية منهم؛ ولا أخذناهم من غير إنذار؛ بل أرسلنا فيهم؛ وأملينا لهم؛ إلى أن كان ما علمناه في الأزل؛ وجاء الوقت الذي قدرناه؛ وبلغوا في الذنوب ما يستحقون به الأخذ؛ ولقد أهلكنا قوم
نوح على هذا السنن؛ وكانوا أهل الأرض؛ كما مضت الإشارة إليه؛ ووقع التنبيه عليه؛ وإهلاكهم كان في إبلاغ أهل الأرض ما أرسلنا به رسلنا؛ من التوحيد؛ لأن ذلك لم يخفف على أحد بعدهم؛ وعطف على هذا المقدر قوله (تعالى):
وكم أهلكنا ؛ أي: بما لنا من العظمة؛ وبين مدلول "كم"؛ بقوله (تعالى):
من القرون ؛ على هذا السنن.
ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال؛ لم يستغرق ما بعده؛ أدخل الجار؛ فقال (تعالى):
من بعد نوح ؛ الذي أنتم ذرية من أنجيناه
[ ص: 394 ] بالحمل معه؛ بذنوبهم؛ أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم؛ ثم أخذناهم في مدد متفاوتة؛ فكان بعضهم أقصر مدة من بعض؛ وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب؛ وأما من قبل
نوح فالظاهر من عبارة التوراة؛ وسكوت القرآن؛ أنهم لم يكونوا كفارا؛ وبه صرح كثير من المفسرين؛ في تفسير:
كان الناس أمة واحدة
ولما كان ذلك ربما أوجب أن يقال: كيف يعذب الساكت؛ مع إمكان عذره بعجز؛ أو غيره؟ قال - دافعا لذلك؛ تاركا مظهر العظمة؛ تلطفا بهذا النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم -؛ في جملة حالية -:
وكفى بربك ؛ أي: المحسن إليك بالعفو عن أمتك؛ وأعقابهم؛ من الاستئصال؛
بذنوب عباده ؛ أي: لكونه خلقهم؛ وقدر ما فيهم من جميع الحركات؛ والسكنات؛
خبيرا ؛ من القدم؛ فهو يعلم السر وأخفى؛ وأما أنتم فلستم هناك؛ فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين؛ ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين؛
بصيرا ؛ بها؛ إذا وقعت لا يخفى عليه شيء منها؛ وأما أنتم فكم من شخص
[ ص: 395 ] كنتم ترونه مجتهدا في العبادة؛ فإذا خلا بارز ربه بالعظائم.