ولما ذكر سبحانه وتعالى أن
الحج موقت بالأهلة ولم يعين له وقتا من شهور السنة وختم ذلك بالتفرقة في بعض أحكام الحج بسبب الأماكن تشوفت النفس إلى تعيين وقته وأنه هل هو كالمكان
[ ص: 138 ] أو عام الحكم فقال
الحج أي وقته
أشهر فذكره بصيغة من جموع القلة الذي أدناه ثلاث وهي ثلاث بجر المنكسر: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة العيد بدليل أنه يفوت بطلوع الفجر يوم النحر; ولما أبهم عين فقال:
معلومات أي قبل نزول الشرع فأذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه ولا شك أن في الإبهام ثم التعيين إجلالا وإعظاما للمحدث عنه.
ولما ختم الآية التي قبلها بالتحذير من سطواته
أمر بإخلاص الحج عن الشوائب ناهيا بصيغة النفي تفخيما له وتأكيدا للنهي ولما كان الحج لا يقع إلا فرضا قال:
فمن فرض أي أوجب بالإحرام، وهو من الفرض وهو الحز في الشيء لينزل فيه ما يسد فرضته حسا
[ ص: 139 ] أو معنى فمن تعظيمه سبحانه وتعالى له أنه جعله دون سائر العبادات لا نفل فيه بعد التلبس به.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي : لأن الفرائض من لم يقمها تساقط عضوا عضوا قائم دينه كما أن النوافل من لم يأت بها عري من زينتها فكانت الفروض صحة والنوافل زينة.
وفي قوله:
فيهن إشعار بصحة وقوع الحج في بعضهن وأن الحج ليس كالصوم طبق زمانه، فكان
من العبادات ما هو طبق زمانه كالصوم، وما يتسع فيه كالصلاة، وما لا بد أن ينتهي إلى خاتمته كالحج وتقع التوسعة في الشروع - انتهى
الحج أي تلبس به كيف كان.
ولما كان في الإنسان قوى أربع: شهوانية بهيمية، وغضبية سبعية ووهمية شيطانية تبعث مع مساعدة القوتين الأخريين على المنازعة والمغالبة في كل شيء، وعقلية ملكية; وكان المقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث لأن منشأ الشرور كلها محصور فيها بالعقلية قال دالا عليها محذرا منها مرتبة:
فلا رفث أي مواجهة للنساء بشيء من أمور النكاح .
ولما كان الرفث هو داعيا إلى الوقاع
[ ص: 140 ] الذي هو فسق بالخروج عن الإحرام الصحيح قال ضاما إليه كل ما دخل في هذا الاسم:
ولا فسوق
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي : هو الخروج عن إحاطة العلم والعقل والطبع - انتهى.
ولما كان المراء قد يجر إلى الفسق بما يثير من الإحن وتوغير الصدور فكان فسقا خاصا عظيما ضرره قال:
ولا جدال أي مدافعة بالقول بفتل عن القصد كمدافعة الجلاد باليد أو السيف ولعله عبر بهذا المصدر الذي شأنه أن يكون مزيدا دون الجدل الذي معناه الدرء في الخصومة لأن
[ ص: 141 ] ينصب النفي على المبالغة فيفهم العفو عن أصله لأنه لا يكاد يسلم منه أحد، وكذا الحال في الفسوق
في الحج فصار الفسق واسطة بين أمرين جارين إليه والجدال لكونه قد يفسد ذات البين أعظمها خطرا ويجمع ما في الرفث من الشهوة وقد يكون فسقا فقد اشتمل على قبائح الكل; فلذلك أجمع القراء السبعة على بنائه مع لا على الفتح دون ما قبله لأن البناء دال على نفي الماهية ونفيها موجب لنفي جميع أفرادها، وأما الرفع فإنما يدل على نفي فرد منكر من تلك الماهية وهو لا يوجب نفي جميع الأفراد، ولأن
العرب كانوا يبنون الحج على النسيء ويتخالفون فيه في الموقف، فزال الجدال فيه بعد البيان بكل اعتبار من جهة الخدم والعيال وغيرهم والنسيء والموقف وغيرهما من حيث إنه قد علمت مشاعره
[ ص: 142 ] وتقررت شرائعه وأحكمت شعائره وأوضحت جميع معالمه فارتفع النزاع أصلا في أمره.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي : فمنع في الحج من الإقبال على الخلق بما فيه كره من رفث ومسابة وجدال حتى لا يقبل الخلق على الخلق في الحج إلا بما الإقبال فيه إقبال على الحق بالحقيقة فما ينزه الحق تعالى عن مواجهته بما يتحامى مع الخلق في زمن الحج كما تحومي ما يختص بالنفس من الأحداث في عمل الصلاة; وفي وروده نفيا لا نهيا إعلام بأنه مناقض لحال الحج حين نفى لأن شأن ما يناقض أن ينفى وشأن ما لا يناقض ويخالف أن ينهى عنه، كما قال فيما هو قابل للجدال
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ ص: 143 ] وبين خطاب النهي والنفي فوت في الأحكام الشرعية ينبني الفقه في الأحكام على تحقيقه في تأصيلها والتفريع عليها - انتهى.
ولما كانت هذه المنفيات شرا وكان التقدير: فما فعلتم من هذه المنهيات على هذا الوجه الأبلغ عوقبتم عليه عطف عليه:
وما وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي : ولما حمي من سوء معاملة الخلق مع الخلق عرض بأن يوضع موضع ذلك الإحسان فيقع في محل إخراج الأنفس أن يتودد إليها بإسداء الخير وهو الإحسان من خير الدنيا، ففي إعلامه تحريض على إحسان الحج بعضهم لبعض لما يجمع وفده من الضعيف والمنقطع فقال: وما
تفعلوا انتهى. أي يوجد لكم فعله في وقت من الأوقات
من خير في الحج أو غيره بتوكل في تجرد
[ ص: 144 ] أو تزود في تزهد أو غير ذلك من القول الحسن عوض الرفث، والبر والتقوى مكان الفسق، والأخلاق الجميلة واليسر والوفاق مكان الجدال
يعلمه الله الذي له جميع صفات الكمال فيجازيكم عليه فهو أشد ترغيب وترهيب.
ولما عمم في الحث على الخير على وجه شامل للتزود وتركه بعد التخصيص أشار إلى أن الخير هو الزاد على وجه يعم الحسي والمعنوي زيادة في الحث عليه إذ لا أضر من إعواز الزاد لأكثر - العباد فقال:
وتزودوا أي التقوى لمعادكم الحاملة على التزود الحسي لمعاشكم الحامل على الزهد فيما في أيدي الناس، والمواساة لمحتاجهم الواقية للعبد من عذاب الله
nindex.php?page=hadith&LINKID=651328اتقوا النار ولو بشق تمرة وذلك هو ثمرة التقوى; والزاد هو متعة المسافر. ثم علل ذلك بما أنتجه بقوله
فإن خير ويجوز أن يكون التقدير: وتزودوا واتقوا الله في
[ ص: 145 ] تزودكم
فإن خير الزاد التقوى وفي التجرد مداخل خلل في بعض نيات الملتبسين بالمتوكلين من الاتكال على الخلق، فأمر الكل بالتزود سترا للصنفين، إذ كل جمع لا بد فيه من كلا الطرفين - قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي وقال: وفي ضمنه تصنيفهم ثلاثة أصناف: متكل لا زاد معه فمعه خير الزادين، ومتمتع لم يتحقق تقواه فلا زاد له في الحقيقة، وجامع بين التقوى والمتعة فذلك على كمال السنة; كما قال عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=944599قيدها وتوكل لأن ذلك أستر للطرفين; وحقيقة التقوى في أمر التزود النظر إلى الله تعالى في إقامة خلقه وأمره، قال بعض أهل المعرفة: من عوده الله سبحانه وتعالى دوام النظر إليه بالغيبة عما سواه فقد ملك الزاد فليذهب حيث شاء فقد استطاع سبيلا - انتهى.
[ ص: 146 ] ولما علم من ذلك أن التقدير: فأكثروا من الزاد مصحوبا بالتقوى وكان الإنسان محل النقصان فكان الإكثار حاملا له في العادة على الطغيان إلا من عصم الله وقليل ما هم قال سبحانه وتعالى مؤكدا لأمر التقوى مشرفا لها بالإضافة إلى نفسه الشريفة تنبيها على الإخلاص لأجل ذاته السنية لا بالنظر إلى شيء من رجاء أو خوف أو اتصاف بحج
[ ص: 147 ] أو غيره عاطفا على ما أرشد إلى تقديره السياق:
واتقون أي في تقواكم بالتزود، وزاد الترغيب فيها بقوله:
يا أولي الألباب أي العقول الصافية والأفهام النيرة الخالصة التي تجردت عن جميع العلائق الجسمانية فأبصرت جلالة التقوى فلزمتها.