ولما كانت كفار
قريش تكرر اقتراحهم للآيات بعد أن اشتد أذاهم؛ وكان - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لشدة حرصه على إيمان كل أحد؛ فكيف بقومه العرب؟! فكيف ببني عمه منهم؟! - ربما أحب أن
[ ص: 455 ] الله (تعالى) يجيبهم إلى مقترحهم؛ طمعا في إيمانهم؛ وإراحة له ولأتباعه من أذاهم؛ وكان ما رأوه من آية الإسراء أمرا باهرا؛ ثم لم يؤمنوا؛ بل ارتد بعض من كان آمن منهم؛ كان المقام في قوة اقتضائه أن يقال - بعد ذكر آية العذاب -: ما لهم لا يعجل عذابهم؛ أو يجابون إلى مقترحاتهم؛ ليقضى الأمر؟ فيقال في الجواب: ما منعنا من تعجيل عذابهم إلا أنا ضربنا لهم أجلا لا بد من بلوغه؛
وما منعنا ؛ أي: على ما لنا من العظمة؛ التي لا يعجزها شيء؛ ولا يمنعها مانع؛
أن نرسل ؛ أي: إرسالا يظهر عظمتنا؛ على وجه العموم؛
بالآيات ؛ أي: التي اقترحتها قريش؛ فكان كأنه لا آيات عندهم سواها؛
إلا ؛ علمنا في عالم الشهادة بما وقع من
أن كذب بها ؛ أي: المقترحات؛
الأولون ؛ وعلمنا في عالم الغيب أن هؤلاء مثل الأولين؛ في أن الشقي منهم لا يؤمن بالمقترحات؛ كما لم يؤمن بغيرها؛ وأنه يقول فيها ما قال في غيرها؛ من أنها سحر؛ ونحو هذا؛ والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها؛ فكم أجبنا أمة إلى مقترحها؛ فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفرا؛ فأخذناهم؛ لأن سنتنا جرت أنا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها؛ ونحن قد قضينا برحمة هذه الأمة؛ وتشريفها على الأمم السالفة؛ بعدم استئصالها؛ لما يخرج من أصلاب
[ ص: 456 ] كفرتها من خلص عبادنا؛ والمنع هنا مبالغة؛ مراد بها نفي إجابتهم إلى مقترحاتهم؛ ولا يجوز أخذه على ظاهره؛ لأنه وجود ما يتعذر معه وقوع الفعل من القادر عليه؛ ثم عطف على ما دل عليه المقام؛ وهو: "فكم أجبنا؟"؛ إلى آخر ما ذكرته؛ قوله (تعالى):
وآتينا ؛ أي: بما لنا من العزة الباهرة؛
ثمود الناقة ؛ حال كونها
مبصرة ؛ أي: مضيئة؛ جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها؛
فظلموا بها ؛ أي: فوقعوا في الظلم؛ الذي هو كالظلام؛ بسببها؛ بأن لم يؤمنوا؛ ولم يخافوا عاقبتها؛ وخص آية ثمود بالذكر تحذيرا؛ بسبب أنهم عرب؛ اقترحوا ما كان سببا لاستئصالهم؛ ولأن لهم من علمها؛ وعلم مساكنهم؛ بقربها إليهم؛ وكونها في بلادهم؛ ما ليس لهم من علم غيرها؛ وخص الناقة لأنها حيوان أخرجه من حجر؛ والمقام لإثبات القدرة على الإعادة؛ ولو كانوا حجارة أو حديدا؛ ودل على سفههم في كلا الأمرين؛ على طريق النشر المشوش؛ بذكر
داود - عليه السلام -؛ إشارة إلى الحديد؛ والناقة؛ إشارة إلى الحجارة؛ فلله هذه الإشارة؛ ما أدقها! وهذه العبارة؛ ما أجلها؛ وأحقها!
وما نرسل ؛ أي: بما لنا من الجلالة؛ التي هي بحيث تذوب لها الجبال؛
بالآيات ؛ أي: المقترحات؛ وغيرها؛
إلا تخويفا ؛ أي: للمرسل إليهم بها؛ فإن خافوا نجوا؛ وإلا هلكوا؛ فإذا كشف الأمر لكم في عالم الشهادة عن أنهم
[ ص: 457 ] لا يخافونها؛ وفق ما كان عندنا في عالم الغيب؛ علم أنه لا فائدة لكم فيها.