ولما ذكره - سبحانه - بما كان في ذلك من رشده - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -؛ أتبعه ببيان أنه إنما كان بعصمة الله له؛ ليزداد شكرا؛ فقال (تعالى):
ولولا أن ثبتناك ؛ أي: بما لنا من العظمة؛ على ما أمرنا؛ لما تقدم من أنا مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ وأنت رأس المتقين؛ والمحسنين؛
لقد كدت ؛ أي: قاربت؛
تركن إليهم ؛ أي: الأعداء؛
شيئا قليلا ؛ لمحبتك في هدايتهم؛ وحرصك على منفعتهم؛ وكنا عصمناك؛ فلم تركن إليهم؛ لا قليلا؛ ولا كثيرا؛ ولا قاربت ذلك؛ كما أفادته "لولا"؛ لأنها تدخل على جملة اسمية؛ فجملة فعلية؛ لربط امتناع الثانية بوجود الأولى؛ فامتناع قرب الركون مرتبط بوجود التثبيت؛ وذلك لأن "لولا"؛ لانتفاء الثاني لأجل انتفاء الأول؛ وهي هنا داخلة على "لا"؛ النافية؛ فتكون لانتفاء قرب الركون؛ لأجل انتفاء نفي التثبيت؛ وانتفاء النفي وجود؛ فإذن التثبيت موجود؛ وقرب الركون منتف؛ ويجوز أن يكون المراد الدلالة على شدة مكرهم؛ وتناهي خداعهم إلى حالة لا يدرك وصفها؛
[ ص: 487 ] فيكون الفعل مسندا إليه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -؛ والمراد إسناده إليهم؛ ليكون المعنى: كادوا أن يجعلوك مقاربا للركون إليهم؛ كما تقول لصاحبك: "لقد كدت تقتل نفسك"؛ أي: فعلت ما قاربت به أن يقتلك غيرك؛ لأجل فعلك؛ وهذه الآية من الأدلة الواضحة على
ما خص به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الفضائل في شرف جوهره؛ وزكاء عنصره؛ ورجحان عقله؛ وطيب أصله؛ لأنها دلت على أنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لو وكل إلى نفسه؛ وما خلق الله في طبعه؛ وجبلته؛ من الغرائز الكاملة؛ والأوصاف الفاضلة؛ ولم يتداركه بما منحه من التثبيت زيادة على ذلك؛ حال النبوة؛ لم يركن إليهم - وهم أشد الناس أفكارا؛ وأصفاهم أفهاما؛ وأعلمهم بالخداع؛ مع كثرة عددهم؛ وعظم صبرهم؛ وجلدهم - ركونا ما؛ أصلا؛ وإنما كان قصاراهم أن يقارب الركون شيئا قليلا؛ فسبحان من يخص من يشاء بما يشاء؛ وهو ذو الفضل العظيم؛