ولما كان من المعلوم أنهم لم يفعلوا، أعرض إلى أسلوب الغيبة
[ ص: 478 ] إيذانا بالغضب، فكان التقدير في جواب من كأنه قال: ما فعلوا؟ : لم يطيعوا أمري في الاجتماع على ما جمعتهم عليه من عبادتي التي هي سبب لجلب كل خير، ودفع كل ضير ولا اقتدوا في ذلك بالكمل من عبادي، فعطف عليه قوله
وتقطعوا أي مخالفة للأمر بالاجتماع، ولما كان الدين الحق من الجلاء والعظمة والملاءمة للنفوس بحيث لا يجهله ولا يأباه أحد نصح لنفسه وإن جهله، كفى أدنى تنبيه في المبادرة إليه وترك ما سواه كائنا ما كان، فكان خروج الإنسان عنه بعد أن كان عليه في غاية البعد فضلا عن أن يتكلف ذلك بمنازعة غيره المؤدية إلى الافتراق والتباغض ولا سيما إن كان ذلك الغير قريبه أو صديقه، وكانت صيغة التفعل من القطع صريحة في التفرق، وتفيد العلاج والتكلف، وكانت تأتي بمعنى التفعيل والاستفعال، عبر بها.
ولما كان في غاية البعد أن يقطع الإنسان أمر نفسه، كان تقديم الأمر أهم فقال:
أمرهم فنصبه بفعل التقطع لأنه بمعنى التقطيع كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13889البغوي وغيره، أو بمعنى الاستفعال كما قالوا في تجبر وتكبر.
ولما كان في غاية من العجب أن يكون التقطيع واقعا منهم بهم
[ ص: 479 ] وأن يكون مستغرقا لظرفه، [- قال:
بينهم أي فكانوا فرقا كل فرقة على شعبة من ضلال، زينها لها هواها، فلم يدعوا شيئا من الأمر بغير تقطيع]، وكان العطف بالواو دون الفاء كما في "المؤمنون" لأن ترك العبادة ليس سببا للتقطع، بل ربما كان عنه الاجتماع على الضلال، كما يكون في آخر الزمان وكما قال تعالى
كان الناس أمة واحدة الآية
وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة
ولما كان كأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ قال ما هو غاية في الدلالة على باهر العظمة وتام القدرة ليكون أشد في الوعيد، وصادع التهديد:
كل أي من هذه الفرق وإن بالغ في التمرد
إلينا على عظمتنا التي لا يكافئها شيء، لا إلى غيرنا
راجعون فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنا نجازيهم إقامة للعدل فنعطي [كلا من -] المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى، فارقا بين المحسن والمسيء تحقيقا للعدل وتشويقا بالفضل: