ولما كان الفائز - وهو الظافر - من لم يحصل له بؤس في ذلك الأمر الذي فاز به، وكان قد أشار سبحانه بحرف الغاية وما شاكله إلى أنه مد لأهل الشقاء في الدنيا في الأعمار والأرزاق حتى استهانوا بعبادة السعداء، فكان ربما قيل: إن أعداءهم فازوا بالاستهزاء بهم والرفعة عليهم في حال الدنيا، وكان سبحانه قد أسلف ما يرد ذلك من الإخبار بأنه خلدهم في النار وأعرض عنهم وزجرهم عن كلامه، وكان أنعم أهل الدنيا إذا غمس في النار غمسة ثم سئل عن نعيمه قال: ما رأيت نعيما قط، فكان ذلك محزا لتقريع الأشقياء بسبب تضييع أيامهم وتنديمهم عليها. تشوف السامع إلى أنه هل يسألهم عن تنعيمه لهم في الدنيا الذي كان جديرا منهم بالشكر فقابلوه بالكفر والاستهزاء بأوليائه؟ فأجاب تشوفه ذلك مجهلا لهم ومندما ومنبها على الجواب أن فوزهم في الدنيا - لقلته التي هي أحقر من قطرة في جنب بحر - عدم، بقوله:
قال تأسيفا على ما أضاعوا من عبادة يسيرة تؤرثهم سعادة لا انقضاء لها
[ ص: 193 ] وارتكبوا من لذة قليلة أعقبتهم بؤسا لا آخر له - هذا على قراءة الجماعة، وبين سبحانه بقراءة
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير nindex.php?page=showalam&ids=15760وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي أن القول بواسطة بعض عباده الذين أقامهم لتعذيبهم إعراضا عنهم تحقيقا لما أشار إليه
ولا تكلمون فقال: " قل " أي يا من أقمناه للانتقام ممن أردنا أي لهؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا على ما يرون من قصر مدتها ولعبها بأهلها فكفروا بنا واستهزؤوا بعبادنا:
كم لبثتم في الأرض على تلك الحال التي كنتم تعدونها فوزا
عدد سنين أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، ولعله عبر بما منه الإسنات الذي معناه القحط إشارة إلى أن أيام الدنيا ضيقة حرجة وإن كان فيها سعة، ولا سيما للكفرة بكفرهم وخبثهم ومكرهم الذي جرهم إلى أضيق الضيق وأسوأ العيش .