ولما كان المقصود من جمعهم على الله تعالى معرفته لأجل عباداته وكان التزام اسمه تعالى في كل حركة وسكون قائدا إلى مراقبته وداعيا إلى مخافته واعتقاد أن مصادر الأمور ومواردها منه وإليه شرعت التسمية أول كل شيء فصدرت بها الفاتحة . وقدم التعوذ الذي هو من [ درء ] المفاسد تعظيما للقرآن بالإشارة إلى أن يتعين لتاليه أن يجتهد في تصفية سره وجمع متفرق أمره ، لينال سؤله ومراده مما أودعه من خزائن السعادة بإعراضه عن العدو الحسود وإقباله على الولي الودود ؛ ومن هنا تعرف
مناسبة المعوذتين بالفاتحة . ولما افتتح التعوذ
[ ص: 23 ] بالهمزة إشارة إلى ابتداء الخلق وختم بالميم إيماء إلى المعاد جعلت البسملة كلها للمعاد لابتدائها بحرف شفوي ، وختام أول كلماتها وآخرها بآخر إشارة إلى أن الرجوع إليه في الدنيا معني بتدبير الأمور وإن كان أكثر الخلق غافلا عنه ، وفي البرزخ حسا بالموت ، وفي الآخرة كذلك بالبعث ؛ كما أشار إلى ذلك تكرير الميم المختتم [ بها ] في اسمها بذكرها فيه مرتين إشارة إلى المعادين الحسيين والله أعلم ؛ والمراد بالاسم الصفات العليا . وقال الأستاذ
nindex.php?page=showalam&ids=14085أبو الحسن الحرالي في تفسيره في
[ ص: 24 ] غريب ألفاظ البسملة : الباء معناها أظهره الله سبحانه من حكمة التسبيب ؛ " الاسم " ظهور ما غاب أو غمض للقلوب بواسطة الآذان على صورة الأفراد ؛ " الله " اسم ما تعنو إليه القلوب عند موقف العقول فتأله فيه أي تتحير فتتألهه وتلهو به أي تغنى به عن كل شيء ؛ " الرحمن " شامل الرحمة لكافة ما تناولته الربوبية ؛ " الرحيم " خاص بالرحمة بما ترضاه الإلهية . وقال في غريب معناها : لما أظهر الله سبحانه حكمة التسبيب وأرى الخلق استفادة بعض الأشياء من أشياء أخر متقدمة عليها كأنها
[ ص: 25 ] أسبابها ، وقف بعض الناس عند أول سبب فلم ير ما قبله ، ومنهم من وقف عند سبب السبب إلى ما عساه ينتهي إليه عقله ؛ فطوى الحق تعالى تلك الأسباب وأظهر بالبسملة أي بتقديم الجار أن كل شيء باسمه لا بسبب سواه . وقال :
استفتح أم القرآن بالبسملة لما كانت نسبتها من متلو الصحف والكتب الماضية نسبة أم القرآن من القرآن الكتاب الجامع للصحف والكتب لموضع طيها الأسباب ، كما تضمنت أم القرآن سر ظهور الأفعال بالعناية من الحميد المجيد في آية
إياك نعبد وإياك نستعين هذا في ظاهر الخطاب إلى ما وراء ذلك من باطنه فإن لكل آية ظهرا وبطنا وليلتزمها الخلق في ابتداء أقوالهم وأفعالهم ، هكذا قال . وأشد منه أنه لما كانت نسبة البسملة من الفاتحة نسبة الفاتحة من القرآن صدرت بها الفاتحة كما صدر القرآن بالفاتحة ، لأنها لما أفادت نسبة الأمور كلها إليه سبحانه وحده أفادت أنه الإله وحده وذلك
[ ص: 26 ] هو [ إجمال تفصيل الفاتحة كما أن الفاتحة ] إجمال تفصيل القرآن من الأصول والفروع والمعارف واللطائف . ولما كان اسم الجلالة علما وكان جامعا لجميع معاني الأسماء الحسنى أولية " الرحمن " من حيث أنه كالعلم في أنه لا يوصف به غيره . ومن حيث أنه أبلغ من " الرحيم " فأولى الأبلغ [ الأبلغ ] ، وذلك موافق لترتيب الوجود . الإيجاد ثم النعم العامة ثم الخاصة بالعبادة ، وذكر الوصفان ترغيبا ، وطويت النقمة في إفهام اختصاص الثاني لتمام الترغيب بالإشارة إلى الترهيب .
والمراد بهما هنا أنه سبحانه يستحق الاتصاف بهما لذاته ، وكررهما بعد تنبيها على وجوب ذلك للربوبية والملك ، وللدلالة على أن الرحمة غلبت الغضب ، وفيهما إلى ما ذكر من الترغيب الدلالة على سائر
[ ص: 27 ] الصفات الحسنى ، لأن من عمت رحمته امتنع أن يكون فيه شوب نقص . وفي آخر " سبحان " لهذا المكان مزيد بيان ؛ وكونها تسعة عشر حرفا خطية وثمانية عشر لفظية إشارة إلى أنها دوافع النقمة من النار التي أصحابها تسعة عشر ، وجوالب للرحمة بركعات الصلوات الخمس وركعة الوتر اللاتي من أعظم العبادات الكبرى ، ولما كانت البسملة نوعا من الحمد ناسب كل المناسبة تعقيبها باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أفراده ، فكأنه قيل : احمدوه لأنه المستحق لجميع المحامد ، وخصوا هذا النوع من الحمد في افتتاح أموركم لما ذكر من استشعار الرغبة إليه والرهبة منه المؤدي إلى لزوم طريق الهدى ، والله الموفق .