[ ص: 122 ] سورة النمل
مقصودها وصف هذا الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين ، بالفصل بين الصراط المستقيم ، وطريق الحائرين ، والجمع لأصول الدين ، لإحاطة علم منزله بالخفي والمبين وبشارة المؤمنين ، ونذارة الكافرين ، بيوم اجتماع الأولين والآخرين ، وكل ذلك يرجع إلى العلم المستلزم للحكمة ، فالمقصود الأعظم منها إظهار العلم والحكمة [كما] كان مقصود التي قبلها إظهار البطش والنقمة ، وأدل ما فيها على هذا المقصود ما للنمل من حسن التدبير ، وسداد المذاهب في العيش ، ولا سيما ما ذكر عنها سبحانه من صحة القصد في السياسة ، وحسن التعبير عن ذلك القصد ، وبلاغة التأدية "بسم الله" الذي كمل علمه فبهرت حكمته "الرحمن" الذي عم بالهداية بأوضح البيان "الرحيم" الذي من بجنان النعيم ، على من ألزمه الصراط المستقيم ،
طس يشير إلى طهارة
الطور [وذي طوى منه] وطيب
طيبة ، وسعد
بيت المقدس الذي بناه
سليمان عليه الصلاة والسلام [التي انتشر منها الناهي عن الظلم ، وإلى أنه] لما طهر سبحانه بني إسرائيل ، وطيبهم بالابتلاء فصبروا ، خلصهم من
فرعون وجنوده بمسموع
موسى عليه الصلاة والسلام للوحي المخالف لشعر الشعراء ، وإفك الآثمين وزلته من الطور ،
[ ص: 123 ] ولم يذكر تمام أمرهم بإغراق
فرعون ، لأن مقصودها إظهار العلم والحكمة دون البطش والنقمة ، فلم يقتض الحال ذكر الميم.
ولما ختم التي قبلها بتحقيق
أمر القرآن ، وأنه من عند الله ، ونفى الشبه عنه وتزييف ما كانوا يتكلفونه من تفريق القول فيه بالنسبة إلى السحر والأضغاث والافتراء والشعر ، الناشئ كل ذلك عن أحوال الشياطين ، وابتدأ هذه بالإشارة إلى [أنه من الكلام القديم] المسموع المطهر عن وصمة تلحقه من شيء من ذلك ، تلاه بوصفه بأنه كما أنه منظوم مجموع لفظا ومعنى لا فصم فيه ولا خلل ، ولا وصم ولا زلل ، فهو جامع لأصول الدين ناشر لفروعه ، بما أشار إليه الكون من المسلمين فقال :
تلك [أي : ] الآيات العالية المقام البعيدة المرام ، البديعة النظام
آيات القرآن أي : الكامل في قرآنيته الجامع للأصول ، الناشر للفروع ، الذي لا خلل فيه ولا فصم ، ولا صدع ولا وصم "و" آيات " كتاب " أي : وأي كتاب هو مع
كونه جامعا لجميع ما يصلح المعاش والمعاد ، قاطع في أحكامه ، غالب في أحكامه ، في كل من نقضه وإبرامه ، وعطفه دون إتباعه للدلالة على أنه كامل في كل من قرآنيته وكتابيته
مبين أي : بين في نفسه أنه من عند الله [كاشف] لكل مشكل ، موضح لكل ملبس مما كان ومما هو كائن من الأحكام والدلائل في الأصول والفروع ، والنكت والإشارات والمعارف ، فيا له من جامع فارق واصل فاصل.
[ ص: 124 ] ولما كانت العناية في هذه السورة بالنشر -الذي هو من لوازم الجمع في مادة "قرا" كما مضى بيانه أول الحجر- أكثر ، قدم القرآن ، يدل على ذلك انتشار أمر
موسى عليه الصلاة والسلام في أكثر قصته بتفريقه من أمه ، وخروجه من وطنه إلى
مدين ، ورجوعه مما صار إليه إلى ما كان فيه ، والتماسه لأهله الهدى والصلى واضطراب العصى وبث الخوف منها ، وآية اليد وجميع الآيات التسع ، واختيار التعبير بالقوم الذي أصل معناه القيام ، وإبصار الآيات ، وانتشار الهدهد ، وإخراج الخبء الذي منه تعليم منطق الطير ، وتكليم الدابة للناس ، وانتشار المرأة [و] قومها وعرشها بعد تردد الرسل بينها وبين
سليمان عليه الصلاة والسلام ، وكشف الساق ، وافتراق
ثمود إلى فريقين ، مع الاختصام المشتت ، وانتثام قوم
لوط عليه السلام إلى ما [لا] يحل ، وتفريق الرياح نشرا ، وتقسيم الرزق بين السماء والأرض ، ومرور الجبال ، ونشر الريح لنفخ الصور الناشئ عنه فزع الخلائق المبعثر للقبور ، إلى غير ذلك مما إذا تدبرت السورة انفتح لك بابه ، وانكشف عنه حجابه ، وهذا بخلاف ما في الحجر على ما مضى.
وقال
الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب ، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء ، ورحم به الأولياء ، وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه ، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه ، فتميز بعظيم آياته كونه فرقانا قاطعا ، ونورا ساطعا ، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء ، وذكر من شملته رحمته به تخصيصا واعتناء ، فقال :
تلك آيات القرآن أي : الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار
[ ص: 125 ] آيات القرآن
وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع ، وليتقوى رجاؤه في النجاة مما أشار إليه
وسيعلم الذين ظلموا من عظيم ذلك المطلع; ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الآهلين لما تقدم من التقول والافتراء تنزيها لعباده المتقين ، وأوليائه المخلصين ، عن دنس الشكوك والامتراء فقال :
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أي : يتحيرون فلا يفرقون بين النور والإظلام ، لارتباك الخواطر والأفهام; ثم أتبع ذلك بتسليته عليه الصلاة والسلام بالقصص الواقعة بعد تنشيطا له وتعريفا بعلي منصبه ، وإطلاعا له على عظيم صنعه تعالى فيمن تقدم ، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها ، والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين ، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه الصلاة والسلام - انتهى.