ولما كان هذا الضلال عجبا في نفسه فضلا عن أن يكون من قوم يجمعهم جامع ملك مبناه السياسة التي محطها العقل الذي هو نور الهداية ، ودواء الغواية ، علله بانتفاء أعظم مقرب إلى الله : السجود ، تعظيما له وتنويها به فقال :
ألا [أي : لأن لا]
يسجدوا أي : حصل لهم هذا العمى العظيم الذي استولى به عليهم الشيطان لانتفاء سجودهم ، ويجوز
[ ص: 153 ] أن يتعلق بالتزيين ، أي : زين لهم لئلا يسجدوا
لله أي : يعبدوا الذي له الكمال كله بالسجود الذي هو محل الأنس ، ومحط القرب ، ودارة المناجاة ، وآية المعافاة ، فإنهم لو سجدوا له سبحانه لاهتدوا ، فإن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ففات الشيطان ما يقصده منهم من الضلال ، وعلى قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي nindex.php?page=showalam&ids=11962وأبي جعفر بالتخفيف وإشباع فتح الياء يكون استئنافا ، بدئ بأداة الاستفتاح تنبيها لهم على عظم المقام لئلا يفوت الوعظ أحدا منهم بمصادفته غافلا ، ثم نادى لمثل ذلك وحذف المنادى إيذانا بالاكتفاء بالإشارة لضيق الحال ، خوفا من المبادرة بالنكال عن استيفاء العبارة التي كان حقها : ألا يا هؤلاء اسجدوا لله ، أي : لتخلصوا من أسر الشيطان ، فإن
السجود مرضاة للرحمن ، ومجلاة للعرفان ، ومجناة لتمام الهدى والإيمان.
ولما كانت [القصة] في
بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة ، وصفه بما يقتضي ذلك فقال :
الذي يخرج الخبء وهو الشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره ، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض ، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلا ، وخصه بقوله :
في السماوات والأرض لأن ذلك منتهى مشاهدتنا ،
[ ص: 154 ] فننظر ما يتكون فيهما بعد أن لم [يكن] من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وغيرهما ، وما يشرق من الكواكب ويغرب - إلى غير ذلك من الرياح ، والبرد والحر ، والحركة والسكون ، والنطق والسكوت - وما [لا] يحصيه إلا الله تعالى ، والمعنى أنه يخرج ما هو في عالم الغيب فيجعله في عالم الشهادة.
ولما كان ذلك قد [يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد] يعرف بأمارات ، وكان ما تضمره القلوب أخفى ، قال :
ويعلم ما تخفون ولما كان هذا مستلزما لعلم الجهر ، وكان للتصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة ، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم ، قال :
وما تعلنون أي : يظهرون.