ولما كانت القصة لإظهار
فضل العلم المستلزم للحكمة ، دلالة على أنه تعالى حكيم عليم ، ترغيبا في القرآن ، وحثا على ما أفاده من البيان ، قال حاكيا لذلك استئنافا جوابا لاستشرافه صلى الله عليه وسلم لأقرب من ذلك :
قال الذي عنده .
ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله ، أشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال :
علم [تنبيها على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على تعلمه ، وبين أن هذا
الفضل إنما هو للعلم الشرعي فقال] :
من الكتاب أي : الذي [لا كتاب في الحقيقة غيره ، وهو المنسوب إلينا ، وكأنه الذي] كان شهيرا في ذلك الزمان ، ولعله التوراة والزبور ، إشارة إلى أن من خدم كتابا حق الخدمة
[ ص: 165 ] كان الله - تعالى كما ورد في شرعنا - سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، أي : إنه يفعل له ما يشاء ، وقيل في تعيينه إنه
آصف بن برخيا وكان صديقا عالما :
أنا آتيك به وهذا أظهر في كونه اسم فاعل لأن الفعل قارن الكلام; وبين فضله على العفريت بقوله :
قبل أن يرتد [أي : يرجع]
إليك طرفك أي : بصرك إذا طرفت بأجفانك فأرسلته إلى منتهاه ثم رددته; قال
القزاز : طرف العين : امتداد بصرها حيث أدرك ، ولذلك يقولون : لا أفعل ذلك ما ارتد إلي طرفي ، أي : ما دمت أبصر ، ويقال : طرف الرجل يطرف إذا حرك جفونه ، وقيل : الطرف اسم لجامع البصر لا يثنى ولا يجمع ، وبين تصديق فعله لقوله أنه استولى عليه قبل أن يتحكم منه العفريت فبادر الطرف إحضاره كما أشار إليه قوله تعالى :
فلما رآه أي : العرش.
ولما كانت الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية ، وكذلك العندية ، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال :
مستقرا عنده أي : ثابتا ثباتا لا مرية فيه ، ما هو بسحر ولا منام ولا مثال; قال
الإمام جمال الدين بن هشام في الباب
[ ص: 166 ] الثالث من كتابه المغني : زعم
ابن عطية أن "مستقرا" هو المتعلق الذي يقدر في أمثاله قد ظهر ، والصواب ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء وغيره من أن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك لا مطلق الوجود والحصول ، فهو كون خاص.
قال أي :
سليمان عليه السلام شكرا لما آتاه الله من هذه الخوارق :
هذا أي : الإتيان المحقق
من فضل ربي أي : المحسن إلي ، لا بعمل أستحق به شيئا ، فإنه أحسن إلي بإخراجي من العدم وتطويقي للعمل ، فكل عمل نعمة منه يستوجب علي به الشكر ، ولذلك قال :
ليبلوني أي : يفعل معي فعل المبتلي الناظر
أأشكر فأعترف بكونه فضلا
أم أكفر بظن أني أوتيته باستحقاق ، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله :
ومن شكر أي : أوقع الشكر لربه
فإنما يشكر لنفسه فإن نفعه لها ، وأما الله تعالى فهو أعلى من أن يكون له في شيء نفع أو عليه فيه ضر
ومن كفر فإن ربي أي : المحسن إلي بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر
غني أي : عن شكر ، لا يضره تركه شيئا
كريم يفعل معه بإدرار النعم عليه فعل من أظهر محاسنه وستر مساوئه ، [ثم هو جدير بأن يقطع إحسانه إن استمر على إجرامه كما
[ ص: 167 ] يفعل الغني بمن أصر على كفر إحسانه فإذا هو قد هلك].