ولما فرغ من آية اشترك فيها الخافقان ، ذكر ما تتفرد به الأرض ، لأنها أقرب إليهم وهم بحقيقتها وما بسواه من أحوالها أعلم منهم بالأمور السماوية ، تعديدا للبراهين الدالة على
تفرده بالفعل الدال على تفرده بالإلهية ، فقال مبدلا من
أمن خلق أمن أي : أم فعل ذلك الذي
جعل الأرض قرارا أي : مستقرة في نفسها ليقر عليها غيرها ، وكان القياس يقتضي أن تكون هاوية أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء.
ولما ذكر قرارها ، أتبعه دليله في معرض الامتنان فقال :
[ ص: 189 ] وجعل خلالها أي : في الأماكن المنفرجة بين جبالها
أنهارا أي : جارية على حالة واحدة ، فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب ، لتغيرت مجاري المياه بلا ارتياب.
ولما ذكر الدليل ، ذكر سبب القرار فقال :
وجعل لها رواسي أي :
كمراسي السفن ، كانت أسبابا في ثباتها على ميزان دبره سبحانه في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب.
ولما أثبت القرار وسببه ، وكان قد جعل سبحانه للأنهار طرقا تتصرف [فيها] ولو حبسها عن الجري شيء لأوشك أن تستبحر ، فيصير أكثر الأرض لا ينتفع به في سير ولا نبات ، أو أن تخرق ذلك الحابس بما لها من قوة الجري وشدة النفوذ بلطافة السريان ، لأن من عادة المياه التخلل بين أطباق التراب والتغلغل بما لها من اللطافة والرقة ، والثقل في الأعماق ولو قليلا قليلا ، وكان سبحانه قد سد ما بين البحرين : الرومي والفارسي ، وكان ما بينهما من الأرض إنما هو يسير جدا في بعض المواضع ، وكان بعض مياه الأرض عذبا ، وبعضه ملحا ، مع
[ ص: 190 ] القرب جدا من ذلك العذب ، سألهم - تنبيها لهم على عظيم القدرة - عن الممسك لعدوان أحدهما على آخر ، ولعدوان كل من خليجي الملح على ما بينهما لئلا يخرقاه فيتصلا فقال :
وجعل بين البحرين حاجزا أي : يمنع أحدهما أن يصل إلى الآخر.
ولما كان من المعلوم أنه الله وحده ليس عند عاقل شك في ذلك ، كرر الإنكار في قوله :
أإله مع الله أي : المحيط علما وقدرة ، ولما كان الجواب الحق قطعا : لا ، وكان قد أثبت لهم في الإضراب الأول علما من حيث الحكم على المجموع ، وكان كل منهم يدعي رجحان العقل ، وصفاء الفكر ، ورسوخ القدم في العلم بما يدعيه
[العرب] ، قال :
بل أكثرهم أي : الخلق الذين ينتفعون بهذه المنافع
لا يعلمون أي : ليس لهم نوع من العلم ، بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح.