ولما ذكر آيات الأرض ، وختم بالمضطر ، وكان المضطر قد لا يهتدي لوجه حيلة ، أتبعها آيات السماء ذاكرا ما هو [من] أعظم صور الاضطرار فقال :
أمن يهديكم أي : إذا سافرتم بما رسم لكم من المعالم العلوية والسفلية
في ظلمات البر أي : بالنجوم والجبال والرياح ، وهي وإن كانت أضعفها فقد يضطر إليه [حيث] لا يبدو
[ ص: 193 ] شيء من ذينك
والبحر بالنجوم والرياح.
ولما كانت الرياح كما كانت من أدلة السير ، كان بعضها من أدلة المطر ، قال :
ومن يرسل الرياح أي : التي هي من دلائل السير
نشرا أي : تنشر السحاب وتجمعها
بين يدي رحمته أي : التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب; والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع : الصبا ، والدبور ، والشمال ، والجنوب ، وهي أضعف الدلائل; قال
الإمام أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب أسماء الأشياء وصفاتها : الرياح أربع : الشمال ، وهي التي تجيء عن يمينك إذا استقبلت قبلة
العراق يعني : وذلك ما بين مطالع الشمس الصيفية وبنات نعش ، وهي في الصيف حارة ، واسمها البارح ، والجنوب تقابلها ، [والصبا من مطلع الشمس وهي القبول ، والدبور تقابلها ، ] ويقال الجنوب : النعامى والأرنب - انتهى.
وهذه العبارة أبين العبارات في تعيين هذه الرياح ، وقال
الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص [ ص: 194 ] الطبري الشافعي في كتابه أدلة القبلة : إن قبلة العراقيين إلى باب
الكعبة كله إلى
الركن الشامي الذي عند
الحجر ، وقال : وقد اختلف أهل العلم بهذا الشأن - أي : في التعبير عن مواطن الرياح - اختلافا متباينا ، وأقرب ذلك - على ما جربته وتعاهدته
بمكة - أن الصبا تهب ما بين مطالع الشمس في الشتاء إلى مطلع سهيل ، وسهيل يمان مسقطه في رأي العين على ظهر
الكعبة إذا ارتفع ، وقال صاحب القاموس : والصبا ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش ، وقال : والقبول كصبور : ريح الصبا ، لأنها تقابل الدبور ، أو لأنها تقابل باب
الكعبة ، أو لأن النفس تقلبها.
وقال
الإمام أبو عبد الله القزاز : الصبا : [الريح] التي تهب من مطلع الشمس ، والقبول : الريح التي تهب من مطلع الشمس ، وذلك لأنها تستقبل الدبور ، وقيل : لأنها تستقبل باب
الكعبة وهي الصبا ، فقد اتفقت أقوالهم كما ترى على خلاف
nindex.php?page=showalam&ids=12847ابن القاص ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12847ابن القاص : وهي - أي : الصبا - ريح معها روح وخفة ، ونسيم تهب مما بين مشرق الشتاء ومطلع سهيل ،
[ ص: 195 ] ولها برد يقرص أشد من هبوبها ، وتلقح الأشجار ، ولا تهب إلا بليل ، سلطانها إذا أظلم الليل ، إلى أن يسفر النهار وتطلع الشمس ، وأشد ما يكون في وقت الأسحار [و] ما بين الفجرين ، والجنوب تهب ما بين مطلع سهيل إلى مغارب الشمس في الصيف.
وقال في القاموس : والجنوب : ريح تخالف الشمال ، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا ، وعن
ابن هشام اللخمي أن الجنوب هي الريح القبلية ، وفي الجمع بين العباب والمحكم : والجنوب ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة ، وقيل : هي من الرياح ما استقبلك عن شمالك إذا وقفت في القبلة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي : ومهب الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : إذا جاءت الجنوب جاء معها خير وتلقيح ، وإذا جاءت الشمال نشفت ، ويقال للمتصافيين : ريحهما جنوب ، وإذا تفرقا قيل : شملت ريحهما ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي : الجنوب في كل موضع حارة
[ ص: 196 ] إلا
بنجد فإنها باردة; وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12847ابن القاص : وإذا هبت فقوتها في العلو والهواء أكثر لأنها موكلة بالسحاب ، وتحرك الأغصان ورؤوس الأشجار ، ومع ذلك فتراها تؤلف الغيم في السماء ، فتراه متراكما مشحونا ، قال : وسمعت من يقول : [ما] اشتد هبوبها إلا خيف المطر ، ولا هبت جنوب قط ثم يتبعها دبور إلا وقع مطر ، وهي تهيج البحر وتظهر بكل ندى كامل في الأرض ، وهي من ريح الجنة. والدبور قال في القاموس : ريح تقابل الصبا ، وقال
القزاز : هي التي تأتي من دبر
الكعبة وهي التي تقابل مطلع الشمس .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12847ابن القاص : تهب ما بين مغارب الشمس في الصيف إلى مطلع بنات نعش ، وقوتها في الأرض أشد من قوتها في الهواء ، وهي إذا هبت تثير الغبار ، وتكسح الأرض. وترفع الذيول ، وتضرب الأقدام ، وأشد ما تثير الغبار إذا تنكبت ، تراها كأنها تعلب بالتراب على وجه الأرض ، وترى الأشجار في البوادي والرمال لها دوي من ناحية الدبور ، وقد اجتمع في أصلها التراب وما يلي الجنوب عاريا مكشوفا متحفزا وقوتها في الأرض - والله أعلم ، لأن
عادا أوعدت بالتدمير بالرياح ، فحفرت الآبار واستكنت فيها ، فبعث الله الدبور فدخلت الآبار وقذفتهم متدمرين حتى أهلكتهم.
والشمال قال في القاموس : الريح التي تهب من قبل الحجر ، والصحيح أنه ما مهبه ما بين مطله الشمس وبنات نعش ، أو من مطلع النعش إلى
[ ص: 197 ] مسقط النسر الطائر ، ولا تكاد تهب ليلا.
وقال
القزاز : هي الريح التي تأتي عن شمالك إذا استقبلت مطلع الشمس ،
والعرب تقول : إن الجنوب قالت للشمال : إن لي عليك فضلا ، أنا أسري وأنت لا تسرين ، فقالت الشمال : إن الحرة لا تسرين ، وقال
الصغاني في مجمع البحرين : والشمال : [الريح] التي تهب من ناحية القطب ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة : هي التي تهب من جهة
القطب الشمالي وهي الجربياء وهي الشامية لأنها تأتيهم من شق
الشام ، وفي الجمع بين العباب والمحكم ، والبوارح : شدة الرياح [من الشمال في الصيف دون الشتاء كأنه جمع بارحة ، وقيل : البوارح : الرياح] الشدائد التي تحمل التراب ، واحدتها بارح ، والجربياء : الريح التي بين الجنوب والصبا ، وقيل : [هي] النكباء التي تجري بين الشمال والدبور ، وهي ريح تقشع السحاب ، وقيل : هي الشمال ، وجربياؤها بردها -قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي - وقال
الليث : هي الشمال الباردة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12847ابن القاص : والشمال تهب ما بين مطلع [بنات نعش إلى مطلع] الشمس في الشتاء ، وهي تقطع الغيم وتمحوها ، ولذلك سميت الشمال المحوة ، قال : وهذا بأرض
الحجاز ، وأما أرض
العراق والمشرق فربما ساق الجنوب غيما واستداره ولم يحلبه حتى تهب الشمال فتحلبه ، والجنوب والشمال متماثلتان ، لأنهما موكلتان بالسحاب ، فالجنوب تطردها
[ ص: 198 ] وهي مشحونة ، والشمال تردها وتمحوها إذا أفرغت ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة : الشمال عند
العرب للروح ، والجنوب للأمطار والندى ، والدبور للبلاء ، وأهونه أن يكون غبارا عاصفا يقذي العيون ، والصبا لإلقاح الشجر ، وكل ريح من هذه الرياح انحرفت فوقعت بين ريحين فهي نكباء ، وسميت لعدولها عن مهب الأربع اللواتي وصفن قبل - انتهى.
[وقال
المسعودي في مروج الذهب في ذكر البوادي من الناس وسبب اختيار البدو : إن شخصا من خطباء
العرب وفد على
كسرى فسأله عن أشياء منها الرياح فقال : ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب ، وما بإزائهما مما يستقبلهما من المغرب شمال ، وما جاء من وراء
الكعبة فهي دبور ، وما جاء من قبل ذلك فهي صبا ، ] .
ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير في سورة النور عن
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
عبيد بن عمير الليثي أنه قال : يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب
ولما انكشف بما مضى من الآيات ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات ، واتضحت الأدلة ، ولم تبق لأحد في شيء من ذلك علة ، كرر سبحانه الإنكار في قوله :
أإله مع الله أي : الذي كمل علمه فشملت قدرته.
[ ص: 199 ] ولما ذكر حالة الاضطرار ، وأتبعها من صورها ما منه ظلمة البحر ،
وكانوا في البحر يخلصون له سبحانه ويتركون شركاءهم ، نبههم على أن ذلك موجب لاعتقاد كون الإخلاص [له] واجبا دائما ، فأتبعه قوله على سبيل الاستعظام ، معرضا عنهم بإجماع العشرة إعراض من بلغ به الغضب :
تعالى الله أي : الفاعل القادر المختار الذي لا كفؤ له
عما يشركون أي : فإن شيئا منها لا يقدر على شيء من ذلك ، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة.