ولما كان التقدير : فكان ما أردناه ، وطاح ما أراد غيرنا ، فأولدنا من بني إسرائيل الولد الذي كان يحذره
فرعون على ملكه ، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله ، وقضينا بأن يسمى
موسى ، بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر ، ونربيه في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله ، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة من بها على الذين استضعفوا فقال :
وأوحينا أي : أوصلنا بعظمتنا بطريق خفي ، الله أعلم به هل هو ملك أو غيره ، إذ لا بدع في
تكليم الملائكة الولي من غير نبوة إلى أم موسى أي : الذي أمضينا في قضائنا أنه يسمى بهذا الاسم ، وأن يكون هلاك
فرعون [ ص: 243 ] وزوال ملكه على يده ، بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذباحون
أن أرضعيه ما كنت آمنة عليه ، وحقق لها طلبهم لذبحه بقوله :
فإذا خفت عليه أي : منهم أن يصيح فيسمع فيذبح
فألقيه أي : بعد أن تضعيه في شيء يحفظه من الماء
في اليم [أي : النيل ، واتركي رضاعه] ، وعرفه وسماه يما - واليم : البحر - لعظمته على غيره من الأنهار بكبره وكونه من الجنة ، وما يحصل به من المنافع ، وعدل عن لفظ البحر إلى اليم لأن القصد فيه أظهر من السعة; قال
الرازي في اللوامع : وهذا إشارة إلى
الثقة بالله ، والثقة سواد عين التوكل ، ونقطة دائرة التفويض ، وسويداء قلب التسليم ، ولها درجات : الأولى درجة الإياس ، وهو إياس العبد من مقاواة الأحكام ، ليقعد عن منازعة الأقسام ، فيتخلص من صحة الإقدام; والثانية درجة الأمن ، وهو أمن العبد من فوت المقدور ، وانتقاص المسطور ، فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين ، وإلا فبطلب الصبر; والثالثة معاينة أولية الحق [جل جلاله ، ] ليتخلص من محن المقصود ، وتكاليف الحمايات ، والتعريج على مدارج الوسائل.
ولا تخافي أي : لا يتجدد لك خوف أصلا من أن يغرق [أو يموت من ترك الرضاع وإن طال المدى] أو يوصل إلى أذاه
ولا تحزني أي : ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه.
[ ص: 244 ] ولما كان الخوف عما يلحق المتوقع ، والحزن عما يلحق الواقع ، علل نهيه عن الأمرين ، بقوله في جملة اسمية دالة على الثبات والدوام ، مؤكدة لاستبعاد مضمونها :
إنا رادوه إليك فأزال مقتضى الخوف والحزن; ثم زادها بشرى لا تقوم لها بشرى بقوله :
وجاعلوه من المرسلين أي : الذين هم خلاصة المخلوقين ، [والآية من الاحتباك ، ذكر الإرضاع أولا دليلا على تركه ثانيا ، والخوف ثانيا دليلا على الأمن أولا ، وسره أنه ذكر المحبوب لها تقوية لقلبها وتسكينا لرعبها].