ولما دل على عجزهم في تلك الدار ، وعلمهم أن
المتصرف في جميع الأقدار ، إنما هو الواحد القهار ، دل على أن ذلك له أيضا في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر ، والمرح والأثر ، من غير أن يغنوا عمن أضلوا ، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق ، وما أضلهم من
[ ص: 348 ] صامت ، تطبيقا لعموم
وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها على بعض الجزئيات ، تخويفا لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ، لا سيما من نسبه إلى السحر، وإعلاما بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء ، لأنه سبحانه عذب
قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد ، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى
موسى عليه الصلاة والسلام ، فعلم كل من كان اغتر بما أوتيه [أن] الحق لله في كل ما دعت إليه رسله ، ونطقت به كتبه ، وضل عنهم ما كانوا يفتقرون ، [ولم يغن عنهم شيئا ما اعتمدوا عليه ، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتقدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي ، فكان مثله - كما يأتي في التي بعده - كمثل العنكبوت اتخذت بيتا] ، وكل ذلك بمرأى من
موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه ، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا [في الأرض] ، وكان ذلك العذاب الذي [عذبوا به من جنس ما] عذب به
فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع ، وهذا صلب جامد ، ليعلم أنه قادر على ما يريد ، ليدوم
[ ص: 349 ] منه الحذر ، فيما سبق منه القضاء والقدر ، ونزع
موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيدا من عصبهم وقال لهم : هاتوا برهانكم [فيها] ، فعلموا بإبراق عصا
هارون عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع أمره فقال :
إن قارون ويسمى في التوراة قورح ، ثم بين سبب التأكيد بقوله :
كان أي : كونا متمكنا
من قوم موسى تنبيها على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأنه فعله معهم لا يكاد يفعله أحد مع قومه ، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم
ونريد أن نمن على الذين إلى آخره ، لأنه ابن عم
موسى عليه الصلاة والسلام [على ما] حكاه
أبو حيان وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما
فبغى عليهم أي : تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي ، والعرض الفاني ، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة ، ووصل ما بينه وبين
فرعون وأضرابه ، من الفرقة ، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة ، كما بغى عليهم
فرعون ; وكان أصل "بغى" هذه : أراد ، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون
[ ص: 350 ] له إرادة ، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه
ما كان لهم الخيرة جعلت إرادته تجاوز الحد ، وعديت بـ "على" المقتضية للاستعلاء تنبيها على خروجها عن أصلها.
ولما ذكر بغيه ، ذكر سببه الحقيقي ، فقال :
وآتيناه أي : ومع كوننا أنعمنا عليه بجعله من حزب أصفيائنا آتيناه بعظمتنا
من الكنوز أي : الأموال المدفونة المدخرة ، فضلا عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منه لما عساه يعرض من المهمات
ما أي : الذي أو شيئا كثيرا لا يدخل تحت حصر حتى
إن مفاتحه أي : مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها
لتنوء أي : تميل بجهد ومشقة لثقلها
بالعصبة أي : الجماعة الكثيرة التي يعصب - أي : يقوي - بعضهم بعضا ، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده ، وكل ذلك مما تستبعده العقول ، فلذلك وقع التأكيد
أولي القوة أي : تميلهم من إثقالها إياهم ، والنوء : الميل ، قال
الرازي : والنوء : الكوكب مال عن العين عند الغروب ، يقال : ناء بالحمل إذا نهض به مثقلا وناء به الحمل إذا أماله لثقله.
[ ص: 351 ] ولما ذكر بغيه ، ذكر وقته ، والوقت قد يكون واسعا كما نقول : جرى كذا عام كذا ، وفيه التعرض للسبب فقال :
إذ قال له وقال :
قومه إشارة إلى
تناهي بغيه بافتخاره وكبره على أقاربه الذين جرت العادة أن لا يغضب كلامهم ولا يؤرث التعزر عليهم ولا يحمل إلا على النصح والشفقة ، وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض ، بدليل ما يأتي ، إما عدا للساكت قائلا لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد ، وإما لأن أهل الخير هم الناس ، ومن عداهم عدم :
لا تفرح أي : لا تسر سرورا يحفر في قلبك فيتغلغل فيه فيحرفك إلى الأشر والمرح ، فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه ، وذلك يدل على نسيان الآخرة، وذلك على غاية الجهل والطيش وقلة التأمل للعواقب ، فيجر إلى المرح فيجر إلى الهلاك ، قال
الرازي : ومن فرح بغير مفروح به استجلب حزنا لا انقضاء له ، وعللوا نهيهم له بما يفهم أشد الشفقة والمحبة فقالوا مؤكدين لاستبعاد من يرى تواصل النعم السارة على أحد أن يكون غير محبوب :
إن الله أي : الذي له صفات الكمال فلا شيء أجل منه ، فبه ينبغي أن يفرح
لا يحب أي : لا يعامل معاملة المحبوب
الفرحين أي
[ ص: 352 ] الراسخين في الفرح بما يفنى ، فإن فرحهم يدل على سفول الهمم.