ولما أثبت سبحانه بهذا علمه الشامل وقدرته التامة في الدنيا ، عادله بما يستلزم مثل ذلك في الآخرة ، فكان حاصل ما مضى من الاستفهام : أحسب الناس أنا لا نقدر عليهم ولا نعلم أحوالهم في الدنيا أم حسبوا أن ذلك لا يكون في الأخرى ، فيذهب ظلمهم في الدنيا وتركهم لأمر الله وتكبرهم على عباده مجانا ، فيكون خلقنا لهم عبثا لا حكمة فيه ، بل الحكمة في تركه ، وهذا الثاني هو معنى قوله منكرا "أم حسب" ، أو يكون المعنى أنه لما أنكر على الناس عموما ظنهم الإهمال ، علم أن أهل السيئات أولى بهذا الحكم ، فكان الإنكار عليهم أشد ، فعادل الهمزة بـ"أم" في السياق الإنكار كما عادلها بها في قوله :
أتخذتم عند الله عهدا [ ص: 392 ] الآية ، فقال :
أم حسب أي : ظن ظنا يمشي له ويستمر [عليه] ، فلا يبين له جهله فيه بأمر يحسبه فلا يشتبه عليه بوجه
الذين يعملون السيئات أي : التي منعناهم بأدلة النقل المؤيدة ببراهين العقل - منها بالنهي عنها- ووضع موضع المفعولين ما اشتمل على مسند ومسند إليه من قوله :
أن يسبقونا أي : يفوتونا فوت السابق لغيره فيعجزونا فلا نقدر عليهم في الدنيا بإمضاء ما قدرناه عليهم من خير وشر في أوقاته التي ضربناها له ، وفي الدار الآخرة بأن نحييهم بعد أن نميتهم ، ثم نحشرهم إلى محل الجزاء صغرة داخرين ، فنجازيهم على ما عملوا ونقتص لمن أساءوا إليه منهم ، ويظهر تحلينا بصفة العدل فيهم.
ولما أنكر هذا ، عجب ممن يحوك ذلك في صدره تعظيما لإنكار فقال :
ساء ما يحكمون أي : ما أسوأ هذا الذي أوقعوا الحكم به لأنفسهم لأن أضعفهم عقلا لا يرضى لعبيده أن يظلم بعضهم بعضا ثم لا ينصف بينهم فكيف يظنون بنا ما لا يرضونه لأنفسهم.