ولما كان قد فعل بهم سبحانه من الأمن الشديد المديد في البر دون سائر
العرب عكس ما ذكر من حال خوفهم الشديد في البحر ، وكان قادرا على إخافتهم في البر كما قدر على إخافتهم في البحر ليدوم إخلاصهم ، وكان كفرهم عند الأمن بعد الإخلاص عند الخوف - مع أنه أعظم النقائص - [هزلا] لا يفعله إلا من أمن مثل تلك المصيبة في البر ، توجه الإنكار في نحو أن يقال : ألم يروا أنا قادرون على إخافتهم وإهلاكهم في البر كما نحن قادرون على ذلك في البحر كما فعلنا بغيرهم ، فعطف عليه قوله :
أولم يروا [أي : ] بعيون بصائرهم
أنا جعلنا أي : بعظمتنا لهم
حرما وقال تعالى :
آمنا لأنه لا خوف على من دخله ، فلما أمن كل حال به كان كأنه هو نفس الأمن ،
[ ص: 479 ] وهو
حرم مكة المشرفة ، وأمنه موجب للتوحيد والإخلاص ، رغبة في دوامه ، وخوفا من انصرامه ، [كما كان الخوف في البحر موجبا للإخلاص خوفا من دوامه ، ورغبة في انصرامه] "و" الحال أنه " يتخطف " وبناه للمفعول لأن المقصود الفعل لا فاعل معين.
ولما كان التخطف غير خاص بناس دون آخرين ، بل كان جميع
العرب يغزو بعضهم بعضا ، ويغير بعضهم على بعض بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من أنواع الأذى ، قال :
الناس من حولهم أي : من حول من فيه من كل جهة تخطف الطيور مع قلة من
بمكة وكثرة من حولهم ، فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفا ومن حوله آمنا ، أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد.
ولما تبين أنه لا وجه لشركهم ولا لكفرهم هذه النعمة الظاهرة المكشوفة ، تسبب الإنكار في قوله :
أفبالباطل أي : خاصة من الأوثان وغيرها
يؤمنون والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه ، وجاء الحصر من حيث إن
من كفر بالله تبعه الكفر بكل حق والتصديق بكل باطل وبنعمة الله التي أحدثها لهم من الإنجاء وغيره
يكفرون [ ص: 480 ] حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاة شركهم بعبادة غيره.