ولما كان فطم النفس عن الشهوات. أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب
[ ص: 146 ] المعلومات مطبوع على قلبه، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة، بوضع الأشياء في غير مواضعها، المثمر للعطب، قال تعالى معجبا ممن يترك الجد إلى اللهو، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو، عاطفا على ما تقديره: فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال:
ومن ويمكن أن يكون حالا من فاعل الإشارة. أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من
الناس الذين هم في أدنى رتبة الإحساس، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان، فضلا عن مقام أولي الإحسان.
ولما كان التقدير: من يسير بغير هذا السير، فيقطع نفسه عن كل خير، عبر عنه بقوله:
من يشتري [أي] غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به
لهو الحديث أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع
[ ص: 147 ] البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهدا في ذلك معملا الخيل في تحصيله باشتراء سببه، معرضا عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن الهموم والغموم، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: في شرى القيان والمغنين والمغنيات، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود اللهو الغناء، وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره.
ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال، بانهماك النفس في ذلك، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر، وقبيلة الإعراض عن الفكر، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوما يدعون العقول الفائقة، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى:
ليضل من الضلال والإضلال على القراءتين، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى
[ ص: 148 ] عن سبيل الله أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع [لصفات] الكمال والجلال والجمال التي هم مقرون بكثير منها، منبها لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصودا لهم فهو ما لا يقصده من له عداد في البشر، وإلا كانوا من الغفلة وسوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل.
ولما كان المراد من قصد الضلال عن الشيء ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال:
بغير علم ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علما يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحا أو يبقي على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى.
ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجبا تعجيبا آخر أشد من الأول بالنصب عطفا على "يضل"
[ ص: 149 ] في قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وحفص عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم، وبالرفع للباقين عطفا على
يشتري ويتخذها أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته [الأولى] أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل المطلق
هزوا
ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم. بينه بقوله، جامعا حملا على معنى "من" بعد أن أفرد حملا على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ
أولئك أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال:
لهم عذاب مهين أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة.