ولما قرر هذه الآية الخارقة، دل عليها بأمر [محسوس] يشاهد كل يوم مرتين، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض، وإبطال قولهم:
وما يهلكنا إلا الدهر بأنه هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك، خاصا بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، أو عاما كل عاقل، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال:
ألم تر أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب، ويمكن أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره.
ولما كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه، فكان إنكاره إنكار لهذا، نبه على ذلك بالتأكيد فقال:
أن الله [أي]
[ ص: 200 ] بجلاله وعز كماله
يولج أي يدخل إدخالا لا مرية فيه
الليل في النهار فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه، فإذا النهار [قد] عم الأرض كلها أسرع من اللمح
ويولج النهار أي يدخله كذلك
في الليل فيخفى حتى لا يبقى له أثر، فإذا الليل قد طبق الآفاق: مشارقها ومغاربها في مثل الظرف، فيميز سبحانه كلا منهما - وهو معنى من المعاني - من الآخر بعد اضمحلاله، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة، عبر فيه بالمضارع.
ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفا على طريق معلوم بقدر لا يختلف، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال:
وسخر الشمس آية للنهار بدخول الليل فيه
والقمر آية لليل كذلك! ثم استأنف ما سخرا فيه فقال:
كل أي منهما
يجري أي في فلكه سائرا متماديا [و] بالغا ومنتهيا.
ولما كان محط مقصود السورة الحكمة، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير، والمد في الإبداع والتسيير، كان الموضع لحرف الغاية فقال:
إلى أجل مسمى لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص، هذا يقطعها في الشهر [مرة] وتلك
[ ص: 201 ] في السنة مرة، لا يقدر منهما أن يتعدى طوره، ولا أن ينقص دوره، ولا أن يغير سيره.
ولما بان بهذا التدبير المحكم، في هذا الأعظم، شمول علمه وتمام قدرته، عطف على "أن الله" قوله مؤكدا لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها:
وأن الله أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة، وعم الخطاب بيانا لما قبله وترغيبا وترهيبا فقال:
بما تعملون أي في كل وقت على سبيل التجدد
خبير لا يعجزه شيء [منه] ولا يخفى عنه، لأنه الخالق له كله دقه وجله، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلا، وكم أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد، فكان ما قاله كما قاله، لم يقدر أحد [منهم] أن يخالف في شيء مما قاله، فتمت كلماته، وصدقت إشاراته وعباراته، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر، وكل منهم
[ ص: 202 ] لا ينفك في كل لحظة عن عمل من حركة وسكون، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في [كل] آن دائما ما تعاقب الملوان، وبقي الزمان، لا يشغله شأن منه على شأن، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا بهذا في غاية العلم [به]. لما ذكر من دليله، ولما شاهدوا من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين، منهم البعيد جدا والمتوسط والقريب، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب صلى الله عليه وسلم، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما أطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة.