[ ص: 204 ] ولما تضمنت الآية ثلاثة أشياء، أتبعها دليلها، فقال منبها على أن سيرنا في الفلك مثل سير النجوم في الفلك، وسير أعمارنا في فلك الأيام حتى يولجنا في بحر الموت مثل سير كل من الليل والنهار في فلك الشمس حتى يولجه في الآخر فيذهب حتى كأنه ما كان، ولولا تفرده بالحقية والعلو والكبر ما استقام ذلك، خاصا بالخطاب أعلى الناس، تنبيها على أن هذه لكثرة الإلف لها أعرض عن تأملها، فهو في الحقيقة [حث] على تدبرها، ويؤيده الإقبال على الكل عند تعليلها:
ألم تر أن الفلك أي السفن كبارا وصغارا
تجري أي بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البر، وعبر بالظرفية إشارة إلى أنه ليس لها من ذاتها إلا الرسوب [في الماء] لكثافتها ولطافته فقال:
في البحر [أي] على وجه الماء، [وعبر عن الفعل بأثره لأنه أحب فقال]:
بنعمت الله أي برحمة الملك الأعلى المحيط علما وقدرة وإحسانه، مجددا ذلك على مدى الزمان عليكم في تعليمكم صنعها حتى تهيأت لذلك على يدي أبيكم
نوح العبد الشكور عليه السلام
ليريكم من آياته أي عجائب قدرته ودلائله [التي] تدلكم على
[ ص: 205 ] أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها، وهي مساوية لغيرها في أن الكل من التراب، فما فاوت بينها إلا هو بتمام قدرته وفعله بالاختيار.
ولما كان هذا أمرا إذا جرد النظر فيه عن كونه قد صار مألوفا بهر العقول وحير الفهوم، أشار إليه بقوله مؤكدا تنبيها مما هم فيه من الغفلة عنه، لافتا الخطاب بعد الجمع إلى الإفراد تنبيها على دقة الأمر وأنه - وإن كان يظن أنه ظاهر - لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم:
إن في ذلك أي الأمر الهائل البديع الرفيع
لآيات أي دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال في عدم غرقه وفي سيره إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهابا وإيابا تارة بريحين، وأخرى بريح واحدة، وفي إنجاء أبيكم
نوح عليه السلام ومن أراد الله من خلقه [به] وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره وفنونه، ونعمه [وفتونه] وإن كان أكثر ذلك قد صار مألوفا لكم فجهلتم أنه من خوارق العادات، ونواقض المطردات، وعلم من ختام التي قبلها أن
[ ص: 206 ] المراد - بقوله جامعا لجميع الإيمان الذي هو نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، وذلك تمام صفة المؤمن مظهرا موضع لك أو لكم - ما أفاد الحكم بكل من شاركه صلى الله عليه وسلم في الوصفين المذكورين:
لكل صبار إدامة الفكر في هذه النعم واستحضارها في الشدة والرخاء، وأنها من عند الله، وأنه لا يقدر عليها سواه، والإذعان له في جميع ذلك، حفظا لما دل عليه العقل من أخذ الميثاق بالشكر، وأن لا يصرف الحق إلى غير أهله، فيلزم عليه الإساءة إلى المحسن
شكور عليه مبالغ في كل من الصبر والشكر، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدة إلا من طبعهم [الله] على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه بحفظ العهد وترك النقض جريا مع ما تدعو إليه الفطرة الأولى السليمة، وقليل ما هم، [و] قال الرازي في اللوامع: وكيفما كان فالصبر هو الثبات في مراكز العبودية، والشكر رؤية النعمة من المنعم الحق وصرف نعمه إلى محابه.