ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر
عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال:
إن مثل عيسى أي في كونه من أنثى فقط
عند الله أي المحيط بكل شيء قدرة وعلما في إخراجه من غير سبب حكمي عادي
كمثل آدم في أن كلا منهما أبدع من غير أب، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم، ولذلك فسر مثله بأنه
خلقه أي قدره وصوره جسدا من غير جنس البشر، بل
من تراب فعلمنا أن تفسير مثل
عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب، فمثل
عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله، فلذلك كان مثل
آدم مثلا له موضحا لأنه مع كونه أغرب أشهر (وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمإ وغيره كما في
[ ص: 426 ] غير هذا الموطن، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب) .
ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل
عيسى كل ولد نشاهده تولد من أنثى، ومثل
آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق
عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلا منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى، وإلا لكان كل جماع موجبا للولد وكل تراب موجبا لتولد الحيوان منه، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن
الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجبا للحبل وبين أن يريد كونه من
[ ص: 427 ] أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعا أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريبا: إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولادا لإبراهيم، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب، بل كلها في قدرته سواء، وإلى ذلك أشار قوله:
ثم قال له كن أي بشرا كاملا روحا وجسدا، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في
فيكون دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهن أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويرا لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيها على أن هذا هو الشأن دائما، يتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلا - كما تقدم التصريح به في آية
إذا قضى أمرا وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أمه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة، لا بخالقه ومكونه تعالى عما
[ ص: 428 ] يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي: جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلا مبدؤه السلالة الطينية، وغايته النفخة الأمرية، وكان
عيسى عليه الصلاة والسلام مثلا مبدؤه الروحية والكلمة، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية، حتى قال صلى الله عليه وسلم: إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من
بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلا واحدا أعلى جامعا
وله المثل الأعلى في السماوات والأرض - انتهى.