ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية، فلم تدع شيئا من العجمة، فظهر كالشمس أنه لا بد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه، وخوفهم ما هم صائرون إليه، مناديا لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفا فقال:
يا أيها الناس أي عامة، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيبا وترهيبا فقال:
اتقوا ربكم أي والذي لا إله [لكم] غيره، لأنه لا محسن إليكم غيره، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر.
ولما كانت وحدة [الإله] الملك توجب الخوف منه، لأنه لا مكافئ له، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على
[ ص: 211 ] أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال:
واخشوا يوما لا يشبه الأيام، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئا بوجه.
ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع [عنه] فتر ذلك من خوفه، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال:
لا يجزي أي يغني فيه، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائما إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أسبابا ستر قدرته بها، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها، وأما هناك فتزول الأسباب، وينجلي غمام الارتياب، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب.
ولما كانت شفقة الوالد - مع شمولها لجميع أيام حياته - أعظم [فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال] بدأ به فقال:
والد كائنا من كان
عن ولده [أي] لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء
[ ص: 212 ] وإن تحقق أن الولد منه، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد، وتجدد عنده العطف والرقة، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد، وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده.
ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال:
ولا مولود أي مولود كان
هو جاز عن والده وإن علم أنه بعضه
شيئا من الجزاء، وفي التعبير بـ "هو" إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدنا لما لأبيه عليه من الحقوق، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه، فعبر به في الأب لأنه لا حق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال: أنه يخيط، ولا يصح "خياط" لأن ذلك ليس من صنعته، ولا من شأنه.
ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول: هل هذا اليوم كائن
[ ص: 213 ] حقا؟ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكدا لمكان إنكارهم، لافتا القول إلى الاسم الأعظم لاقتضاء الوفاء له:
إن وعد الله الذي له جميع معاقد العز والجلال
حق يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله، وعظيم قدرته وكماله، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلا عن أوهامكم أن يخلفه مع [أن] أدناكم - أيها العرب كافة - لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب في ذلك الأخطار، وعانى فيه الشدائد الكبار، فلما ثبت أمره، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم، لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات، تسبب عنه قوله:
فلا تغرنكم مؤكدا لعظم الخطب
الحياة الدنيا أي بزخرفها، و [لا] ما يبهج من لا تأمل له من فاني رونقها، وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم من الإلف بالحاضر معم لهم عما فيه من الزور، والخداع الظاهر والغرور، فقال مظهرا غير مضمر لأجل زيادة التنبيه والتحذير:
ولا يغرنكم بالله الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم
الغرور [أي] الكثير الغرور
[ ص: 214 ] المبالغ فيه، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها، ويلهيكم به من تعظيم قدرها، وينسيكموه من كيدها وغدرها، وتعبها وشرها، وأذاها وضرها، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم، فلا تعدونه معادا، فلا تتخذون له زادا، لما اقترن بغروره من حلم الله وإمهاله، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير رضي الله عنه: الغرة أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة.