ولما ختم بوصف الحكمة فتم برهان القدرة التي كان أوجب اعتقادهم لعدم البعث ما يقتضي نقصا فيها، ولزم عن ذلك التوحيد وبطل الشرك، لم يبق إلا إثبات الرسالة التي أوجب ترديدهم
[ ص: 504 ] أخباره صلى الله عليه وسلم بين الكذب والجنون والطعن فيها، فعلم أن التقدير: أرسل إليكم رسوله بعزته مؤيدا له بإعجاز هذا القرآن بحكمته دليلا على صدقه وكماله في جبلته وتأهله لبدائع نعمته ومعالي رحمته، وكان في ذلك دليل الصدق في الرسالة; فنسق به قوله معليا لشأنه بالخطاب في مظهر العظمة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يتدرع جلابيب الصبر على جميع المكاره الصادرة من أنواع الخلق في أداء الرسالة بقوله عاطفا على
ولقد آتينا داود منا فضلا مؤكدا تكذيبا لمن يدعي الخصوص:
وما أرسلناك أي بعظمتنا
إلا كافة أي إرسالا عاما شاملا لكل ما شمله إيجادنا، تكفهم عما لعلهم أن ينتشروا إليه من متابعة الأهوية، وتمنعهم عن أن يخرج عنها منهم أحد، فالتاء في "كافة" للمبالغة، وعبارة
ابن الجوزي: أي عامة لجميع الخلائق
للناس أي كل من فيه قابلية لأن ينوس من الجن والإنس وغيرهم من جميع ما سوى الله وإن آذوك بكل أذى من النسبة إلى الافتراء أو الجنون أو غيرهما، فحال الإرسال محصور في العموم للغرض الذي ذكر من التدرع لحمل المشاق، لا في الناس، فإنه لو أريد ذلك لقدموا فقيل: إلا للناس كافة،
[ ص: 505 ] وقد مضى في أوائل الأنعام عن
السبكي ما ينفع هنا، والمعنى أن
داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير والحديد،
وسليمان عليه السلام بما ذكر له، ففضيلتك أنت بالإرسال إلى كل من يمكن نوسه، فالحصا سبحت في كفك، والجبال أمرت بالسير معك ذهبا وفضة، والحمرة شكت إليك أخذ فراخها أو بيضها، والضب شهد لك، والجمل شكا إليك وسجد لك، والأشجار أطاعتك، والأحجار سلمت عليك وائتمرت بأمرك إلى غير ذلك من كل من ينوس بالفعل أو القابلية. والله أعلم، وأما الجن فحالهم مشهور، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور، [وفي دلائل النبوة في باب التحدث بالنعمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية دليل على فضل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنبياء بعموم الرسالة للإنس والجن].
ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار، وكان في ذكرها رد قولهم في الكذب والجنون، قال:
بشيرا ونذيرا أي لمن أهل للبشارة أو النذارة. ولما كان هذا الإرسال مقرونا بدليله من الإتيان بالمعجز من نفسه من جهة البلاغة في نظمه وبالمعاني المحكمة في البشارة والنذارة وغير ذلك، قلب عليهم قولهم الذي لا دليل عليه
[ ص: 506 ] ولا شبهة تصوب إليه في حقه صلى الله عليه وسلم بقوله الذي [هو] أوضح من الشمس دليلا، وأقوم كل قيل قيلا:
ولكن ولما كان الناس الأولين كل من فيه قابلية النوس وهم جميع الخلائق وأكثرهم [غير] عاص، أظهر مريدا الثقلين من الجن والإنس فقال: فأكثر الناس لا يعلمون أي ليس لهم قابلية العلم فيعلموا أنك رسول الله فضلا عن أن إرسالك عام، بل هم كالأنعام، فهم لذلك لا يتأملون فيقولون "افترى أم به جنة" ونحو هذا من غير تدبر لما في هذا الكتاب من الحكمة والصواب مع الإعجاز في حالي الإطناب والإيجاز، والإضمار والإبراز، فيحملهم جهلهم على المخالفة والإعراض.