ولما كان التقدير: "فما يستوي في الطبع والعقل المتدسي؛ الذي هو أعمى بعصيانه في الظلمات؛ ولا المتزكي؛ الذي هو بطاعاته بصير في
[ ص: 36 ] النور؛ وإن استويا في الإنسانية"؛ عطف عليه ما يصلح أمثلة للمتدسي؛ والمتزكي؛ وما يكون به التدسية؛ والتزكية - دلالة على تمام قدرته؛ الذي السياق له من أول السورة؛ وتقريرا لأن الخشية والقسوة بيده؛ إبطالا لقول من يسند الأمور إلى الطبائع - قوله:
وما يستوي ؛ أي: في حالة من الأحوال؛ ولما كان المقام لوعظ المشركين؛ وكان المتدسي؛ قبل المتزكي؛ على ما قرر قبله؛ ناسب أن ينظم على هذا الترتيب قوله - مثالا للكافر؛ والمؤمن؛ والجاهل؛ والعالم؛ وقدم مثال الجاهل لأن الأصل عن الإرسال الجهل -:
الأعمى والبصير ؛ أي: لا الصنفان؛ ولا أفرادهما؛ ولا أفراد صنف منهما؛ وأغنى عن إعادة النافي ظهور المفاوتة بين أفراد كل صنف من الصنفين؛ فالمعنى أن الناس غير مستوين في العمى؛ والبصر؛ بل بعضهم أعمى؛ وبعضهم بصير؛ لأن "افتعل"؛ هنا؛ لمعنى "تفاعل"؛ ولعله عبر به دلالة على النفي؛ ولو وقع اجتهاد في ألا يقع؛ أو دلالة على أن المنفي إنما هو التساوي من كل جهة؛ لا في أصل المعنى؛ ولو كان ذلك مستندا إلى الطبع؛ لكانوا على منهاج واحد؛ بل وأفراد كل متفاوتون؛ فتجد بعض العمي يمشي بلا قائد في الأزقة المشكلة؛ وآخر لا يقدر على المشي في بيته إلا بقائد؛ وآخر يدرك من الكتاب إذا جسه كم مسطرته من سطر؛ وهل خطه حسن أو لا؛
[ ص: 37 ] وآخر يدرك الدرهم الزيف من غيره؛ ويميز ضرب كل بلد من غيره؛ وربما نازعه أحد مغالطة؛ فلا يقبل التشكيك؛ وآخر في غاية البعد عن ذلك؛ وأما البصراء فالأمر فيهم واضح في المفاوتة في أبصارهم؛ وبصائرهم؛ وكل ذلك دليل واضح على أن الفاعل قادر؛ مختار؛ يزيد في الخلق ما يشاء؛ وإلا لتساوت الأفراد؛ فكانوا على منهاج واحد.