ولما كان من أغرب الأشياء الدالة على تمام القدرة؛ الدال على الوحدانية؛ أن يكون شيء واحد سببا لسعادة قوم وهداهم؛ وشقاوة قوم وضلالهم وعماهم؛ وكان ذلك أمرا دقيقا؛ وخطبا جليلا؛ لا يفهمه
[ ص: 44 ] حق فهمه إلا أعلى الخلائق؛ ذكر المخاطب بهذا الذكر ما يشاهد من آيته؛ فقال - على طريق الاستخبار؛ لوصول المخاطب إلى رتبة أولي الفهم؛ بما ساق من ذلك - سبحانه - على طريق الإخبار في قوله:
والله الذي أرسل الرياح ولفت القول إلى الاسم الأعظم؛ دلالة على عظمة ما في حيزه -:
ألم تر أن الله ؛ أي: الذي له جميع صفات الكمال؛
أنـزل من السماء ؛ أي: التي لا يصعد إليها الماء؛ ولا يستمسك عن الهبوط منها؛ في غير أوقاته؛ إلا بقدرة باهرة؛ لا يعجزها شيء؛
ماء ؛ أي: لا شيء يشابهه في مماثلة بعضه لبعض؛ فلا قدرة لغيره - سبحانه - على تمييز شيء منه؛ إلى ما يصلح لشيء دون آخر.
ولما كان أمرا فائتا لقوى العقول؛ نبه عليه بالالتفات إلى مظهر العظمة؛ فقال:
فأخرجنا ؛ أي: بما لنا من العظمة؛
به ؛ أي: الماء؛ من الأرض؛
ثمرات ؛ أي: متعددة الأنواع؛
مختلفا ألوانها ؛ أي: ألوان أنواعها؛ وأصنافها؛ وهيئاتها؛ وطبائعها؛ فالذي قدر على المفاوتة بينها؛ وهي من ماء واحد؛ لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نورا لشخص؛ وعمى لآخر.
[ ص: 45 ] ولما ذكر تنوع ما عن الماء؛ وقدمه لأنه الأصل في التلوين؛ كما أنه الأصل في التكوين؛ أتبعه التلوين عن التراب؛ الذي هو أيضا شيء واحد؛ فقال - ذاكرا ما هو أصلب الأرض؛ وأبعدها عن قابلية التأثر؛ وقطعه عن الأول لأن الماء لا تأثير له فيه -:
ومن ؛ أي: ومما خلقنا من
الجبال جدد ؛ أي: طرائق؛ وعلامات؛ وخطوط متقاطعة؛
بيض وحمر ؛ ولعله عبر عنها بذلك؛ دون "طرق"؛ إشارة إلى أن من غرابتها أنها لا تخلق؛ ولا تضمحل ألوانها؛ على طول الأزمان؛ كما هو العادة في غالب ما يتقادم عهده؛ و"الجد"؛ بالفتح؛ و"الجدة"؛ بالكسر؛ و"الجدد"؛ بالتحريك: وجه الأرض؛ وجمعه "جدد"؛ بالكسر؛ و"الجدة"؛ بالضم: الطريقة؛ والعلامة؛ والخط في ظهر الحمار؛ يخالف لونه؛ وجمعه "جدد"؛ كـ "غدة"؛ و"غدد"؛ و"عدة"؛ و"عدد"؛ و"مدة"؛ و"مدد"؛ و"الجدد"؛ محركة: ما أشرف من الرمل؛ وشبه السلعة بعنق البعير؛ والأرض الغليظة المستوية؛ و"الجدجد"؛ بالفتح: الأرض المستوية.
ولما كان أبلغ من ذلك أن تلك الطرق في أنفسها غير متساوية المواضع في ذلك اللون الذي تلونت به؛ قال (تعالى) - دالا على أن كلا من هذين اللونين لم يبلغ الغاية في الخلوص -:
مختلف ألوانها ؛ وهي
[ ص: 46 ] من الأرض؛ وهي واحدة؛ ولما قدم ما كان مستغربا في ألوان الأرض؛ لأنه على غير لونها الأصلي؛ أتبعه ما هو أقرب إلى الغبرة؛ التي هي أصل لونها.
ولما كانت مادة "غرب"؛ تدور على الخفاء؛ الذي يلزمه الغموض؛ أخذا من غروب الشمس؛ ويلزم منه السواد؛ ولذلك يؤكد الأسود بـ "غربيب"؛ مبالغة الغرب؛ كـ "فرح"؛ أي: الأسود ؛ للمبالغة في سواده؛ وكان المقصود الوصف بغاية السواد؛ مخالفة لغيره؛ قال (تعالى) - عاطفا على "بيض" -:
وغرابيب ؛ أي: من الجدد أيضا؛
سود ؛ فقدم التأكيد لدلالة السياق على أن أصل العبارة "وسود غرابيب سود"؛ فأضمر الأول؛ ليتقدم على المؤكد؛ لأنه تابع؛ ودل عليه بالثاني ليكون مبالغا في تأكيده غاية المبالغة؛ بالإظهار بعد الإضمار؛ وهو معنى قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أشد سواد الغربيب"؛ رواه عنه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ؛ لأن السواد الخالص في الأرض؛ مستغرب؛ ومنه ما يصبغ به الثياب؛ ليس معه غيره؛ فتصير في غاية السواد؛ وذلك في مدينة
"فوة"؛ و"مسير"؛ وغيرهما؛ مما داناهما من بلاد
مصر.