ولما كان مقصود السورة التنزيه؛ الذي هو الإبعاد عن النقائص؛ ولذلك كان أنسب الأشياء الإقسام أولها بالملائكة؛ الذين هم أنزه الخلق؛ وكان أعلى الخلق من جرد نفسه عن الحظوظ؛ بما يؤتيه الله من المجاهدات؛ والمنازلات؛ والمعالجات؛ حتى يلحق بهم؛ فيجوز مع فضلهم معالي الجهاد؛ فكان أحق الأنبياء بالذكر من كان أكثر تجريدا لنفسه من الشواغل؛ سيرا إلى مولاه؛ وتعريجا عن كل ما سواه؛ وكان الأب
[ ص: 245 ] الثاني من أحقهم بذلك؛ لأنه تجرد في الجهاد بالدعاء إلى الله ألف عام؛ ثم تجرد عن كل شيء على ظهر الماء بين الأرض؛ والسماء؛ فقال (تعالى) - مؤكدا لما تقدم من أنه دعا إلى التأكيد من أن مكثه في قومه المدة الطويلة مبعد لأن يكونوا وافقوه ومالوا معه وتابعوه؛ ولأن فعل
العرب في التكذيب؛ مع ترادف المعجزات؛ وتواتر العظات؛ عمل من هو مكذب بوقوع النصرة للمرسلين؛ والعذاب للمكذبين؛ عطفا على ما تقديره: "فقاسى الرسل من الشدائد ما لا تسعه الأوراق؛ وجاهدوهم بأنفسهم؛ والتضرع إلى الله (تعالى) في أمرهم" -:
ولقد نادانا ؛ لما لنا من العظمة؛
نوح ؛ بقوله: "رب إني مغلوب فانتصر"؛ ونحوه؛ مما أخبر الله عنه به بعد أمور عظيمة لقيها منهم من الكروب؛ والشدائد والخطوب؛ لنكشف عنه ما أعياه من أمرهم.
ولما أغنت هذه الجملة عن شرح القصة وتطويلها؛ وكان قد تسبب عن دعائه إجابته؛ قال - بالتأكيد بالاسمية؛ والإشارة إلى القسم؛ والأداة الجامعة لكل مدح؛ وصيغة العظمة؛ إلى أن هول عذابهم؛ وعظم مصابهم بلغ إلى أنه مع شهرته لا يكاد يصدق؛ فهو يحتاج إلى اجتهاد كبير؛ وشدة اعتناء؛ فكانت الإجابة إجابة من يفعل ذلك؛ وإن
[ ص: 246 ] كانت الأفعال بالنسبة إليه - سبحانه - على حد سواء؛ لا تحتاج إلى غير مطلق الإرادة -:
فلنعم المجيبون ؛ أي: كنا؛ بما لنا من العظمة؛ له؛ ولغيره ممن كان نعم المجيب لنا؛ هذه صفتنا؛ لا تغير لها.