ولما عجب منهم بما مضى؛ وأبطل شبههم؛ وعرفهم أنهم قد عرضوا أنفسهم للهلاك تعريضا قريبا؛ أتبع ذلك تعجيبا أشد من الأول؛ فقال:
وقالوا ؛ أي: استهزاء؛ غير هائبين ما هددناهم به؛ ولا ناظرين في عاقبته:
ربنا ؛ أي: أيها المحسن إلينا؛
عجل لنا ؛ أي: إحسانا إلينا
قطنا ؛ أي: نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به؛ وكتابنا الذي كتبت فيه ذلك؛ وأحصيت فيه أعمالنا؛ وأصله من "قط الشيء"؛ إذا قطعه؛ ومنه "قط القلم"؛ وأكثر استعماله في الكتاب.
ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان؛ التي بينهم وبين القيامة؛ أسقطوا حرف الجر؛ وقالوا:
قبل يوم الحساب ؛ فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفا لذلك؛ وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم؛ دلالة على الإعراق في الاستهزاء؛ وعبر بالقط زيادة في التنبيه على ركوب الهوى؛ من غير دليل؛ فإن مادته دائرة في الأغلب على ما يكره؛ واشتقاقه من "القط"؛ وهو القطع؛ فـ "القط": النصيب؛ والصك؛ وكتاب المحاسبة؛ لأنه قطعة من الورق؛
[ ص: 348 ] والحساب قطعة من الأمور؛ وهو يقطع فيه بما هو له؛ والساعة؛ لأنها قطعة من الزمان؛ و"تقطقط الرجل": ركب رأسه؛ أي: تبع هواه؛ الذي هو قطعة من أمره؛ و"جاءت الخيل قطاقط"؛ أي: قطعا؛ وجماعات؛ في تفرقة؛ و"القط": القطع؛ و"القطط": القصير الجعد؛ و"الطقطقة": حكاية صوت الحجارة؛ فكأنهم قالوا: عجل من ذلك ما يكون مقطوعا به؛ لا شك فيه؛ ويسمع صوته على غاية الشدة؛ فيهلك؛ ويفرق بين الأحباب؛ ويكتب في كل صك؛ ويتلى خبره في سائر الأحقاب؛ فإن ذلك هو أنا لا نرجع عنه لشيء أصلا؛ فسبحان الحليم الذي أكرمنا؛ ورحمنا بنبي الرحمة؛ فلم يعجل لنا النقمة؛ وأقبل بقلوبنا إليه؛ وقصر هممنا - بعد أن كانت في أشد بعد - عليه؛