ولما كان التقدير: "أفنحن نخلق ذلك باطلا؛ فلا يكون له مآل يظهر فيه حكمته؛ ونحن منزهون عن العبث؟"؛ عطف عليه قوله - إنكارا لما يلزم من ترك البعث من التسوية بين ما حقه المفاوتة فيه؛ وذلك أشد من العبث؛ وإن كان له أن يفعل ذلك؛ لأنه لا يقبح منه شيء -:
أم نجعل ؛ أي: على عظمتنا؛
الذين آمنوا ؛ أي: امتثالا
[ ص: 373 ] لأوامرنا؛
وعملوا ؛ أي: تصديقا لدعواهم الإيمان؛
الصالحات ؛ من الأعمال؛ كالذين أفسدوا؛ وعملوا السيئات؛ أم نجعل المصلحين في الأرض
كالمفسدين ؛ أي: المطبوعين على الفساد؛ الراسخين فيه؛
في الأرض ؛ أي: بالكفر وغيره؛ والتسوية بينهم لا يشك عاقل في أنها سفه؛
أم نجعل ؛ على ما لنا من العز والمنعة؛ الذين اتقوا كالذين فجروا؛ أم نصير
المتقين ؛ أي: الراسخين من المؤمنين في التقوى الموجبة للتوقف عن كل ما لم يدل عليه دليل؛
كالفجار ؛ أي: الخارجين من غير توقف عن دائرة التقوى؛ من هؤلاء الذين كفروا؛ أو من غيرهم؛ في أن كلا من المذكورين يعيش على ما أدى إليه الحال في الدنيا؛ وفي الأغلب يكون عيش الطالح أرفع من عيش الصالح؛ ثم يموت ولا يكون شيء بعد ذلك؟! ولا شك أن المساواة بين المصلح؛ والمفسد؛ والمتقي؛ والمارق؛ لا يراها حكيم؛ ولا غيره من سائر أنواع العقلاء؛ فهو لا يفعلها - سبحانه - وإن كان له أن يفعل ذلك؛ فإنه لا يجب عليه شيء؛ ولا يقبح منه شيء؛ وقد علم أن الآية من الاحتباك؛ وأنه مشير إلى احتباك آخر؛ فإنه ذكر "الذين آمنوا"؛ أولا؛ دليلا على "الذين أفسدوا"؛ ثانيا؛ وذكر "المفسدين"؛ ثانيا؛ دليلا على "المؤمنين"؛ أولا؛ وأفهم ذلك ذكر الذين اتقوا؛ وأضدادهم؛ وسر ما ذكر؛ وما حذف؛ أنه ذكر أدنى أسنان الإيمان تنبيها على شرفه؛ وأنه سبب السعادة؛ وإن كان على
[ ص: 374 ] أدنى الوجوه؛ وذكر أعلى أحوال الفساد؛ إشارة إلى أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء؛ وذكر أعلى أحوال التقوى؛ إيماء إلى أنه لا يوصف بها ويستحق جزاءها إلا الراسخ فيها؛ ترغيبا للمؤمن في أن يترقى إلى أوجها.