ولما كان من المستبعد جدا أن يقسو قلب من ذكر الله؛ بينه الله؛ وصوره في أعظم الذكر؛ فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء؛ وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقرا؛ وفي أبصارهم عمى؛ فقال - مفخما للمنزل؛ بجعل الاسم الأعظم مبتدأ؛ وبناء الكلام عليه -:
الله ؛ أي: الفعال
[ ص: 488 ] لما يريد؛ الذي له مجامع العظمة؛ والإحاطة بصفات الكمال؛
نـزل ؛ أي: بالتدريج؛ للتدريب؛ وللجواب عن كل شبهة؛
أحسن الحديث ؛ وأعظم الذكر؛ ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن؛ ولقدر - ولو يوما واحدا - على الإتيان بشيء من مثله؛ وأبدل من "أحسن"؛ قوله:
كتابا ؛ أي: جامعا لكل خير؛
متشابها ؛ أي: في البلاغة المعجزة؛ والموعظة الحسنة؛ لا تفاوت فيه أصلا في لفظ ولا معنى؛ مع كونه نزل مفرقا في نيف وعشرين سنة؛ وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت؛ وإن طال الزمان في التهذيب؛ سواء اتحد زمانه أو لا؛ والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر؛ ولم يقل: "مشتبها"؛ لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة؛ وذلك لا يمدح به.
ولما كان مفصلا إلى سور؛ وآيات؛ وجمل؛ وصفه بالجمع؛ في قوله:
مثاني ؛ جمع "مثنى"؛ "مفعل"؛ من التثنية؛ بمعنى التكرير؛ أي تثنى فيه القصص؛ والمواعظ؛ والأحكام؛ والحكم؛ مختلفة البيان في وجوه من الحكم؛ متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات؛ من غير اختلاف أصلا في أصل المعنى؛ ولا يمل من تكراره؛ وترداد قراءته؛ وتأمله؛ واعتباره؛ مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده؛ المؤمن؛ والكافر؛ والمطيع؛ والعاصي؛ والرحمة العامة؛ والرحمة الخاصة؛ والجنة؛ والنار؛ والنعيم؛
[ ص: 489 ] والشقاء؛ والضلال؛ والهدى؛ والسراء؛ والضراء؛ والبشارة؛ والنذارة؛ فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء؛ صريحا؛ إلا ثني بإفهام ما لضده؛ تلويحا؛ فكان مذكورا مرتين؛ ومرغبا فيه؛ أو مرهبا منه كرتين؛ ويجوز أن يكون التقدير: "متشابهة مثانيه"؛ فيكون نصبه على التمييز؛ وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة؛ فما لم يكرر عليها عودا على بدء؛ لم يرسخ عندها؛ ولم يعمل عمله؛ ومن ثم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر.
ولما كان التكرار يمل؛ ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار؛ ويزداد حلاوة ولو ثني آناء الليل وأطراف النهار؛ فقال:
تقشعر ؛ أي: تهتز؛ وتتجمع؛ وتتقبض تقبضا شديدا؛ من "القشع"؛ وهو الأديم اليابس؛ وزيد حرفا لزيادة المعنى؛ واختير حرف التكرير إشارة إلى المبالغة فيه؛ وكونه حرف التطوير أشد للمناسبة؛
منه جلود ؛ أي: ظواهر أجسام؛
الذين يخشون ؛ أي: يخافون خوفا شديدا؛ ويلتذون لذة توجب إجلالا وهيبة؛ فيكون ذلك سبب ذلك؛ وزاد في مدحهم بأنهم يخافون المحسن؛ فهم عند ذكر أوصاف الجلال أشد خوفا؛ فلذلك لفت القول إلى وصف الإحسان؛ فقال:
[ ص: 490 ] ربهم ؛ أي: المربي لهم؛ والمحسن إليهم؛ لاهتزاز قلوبهم؛ روى
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني عن
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=944697 "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه"؛ وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه مر برجل من أهل
العراق ساقط؛ قال: فما بال هذا؟ قال: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط؛ قال
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر - رضي الله عنهما -: إنا لنخشى الله وما نسقط؛ وإن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم؛ ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛
ثم تلين ؛ أي: تمتد؛ وتنعم؛ وقدم ما صرح فيه بالاقشعرار الذي يلزمه اليبس؛ وأخر القلوب؛ إبعادا لها عما قد يفهم يبسا؛ فيوهم قسوة؛ فقال:
جلودهم ؛ لتراجعهم بعد برهة إلى الرجاء؛ وإن اشتدت صلابتها؛
وقلوبهم ؛ وذكره لتجدد لين القلوب مع الجلود دال على تقدير اقشعرارها معها من شدة الخشية؛ فإن الخشية لا تكون إلا في القلب؛ وكان سر حذف التصريح بذلك تنزيهها عن ذكر ما قد يفهم القسوة.
ولما كان القلب شديد الاضطراب؛ والتقلب؛ دل على حفظه له بنافذ أمره؛ وباهر عظمته؛ بالتعدية بـ "إلى"؛ ليكون المعنى: ساكنة مطمئنة؛
[ ص: 491 ] إلى ذكر الله ؛ أي: ذي الجلال والإكرام؛ فإن الأصل في ذكره الرجاء؛ لأن
رحمته سبقت غضبه؛ وأظهر موضع الإضمار لـ "أحسن الحديث"؛ لئلا يوهم أن الضمير للرب؛ فيكون شبهة لأهل الاتحاد؛ أو غيرهم من أرباب البدع؛ ولم يقل: "إلى الحديث"؛ أو: "الكتاب"؛ مثلا؛ بل عدل إلى ما عرف أنه ذكره - سبحانه -؛ ليكون أفخم لشأنه؛ وزاده فخامة بصرف القول عن الوصف المقتضي للإحسان إلى الاسم الجامع للجلال والإكرام.
ولما كان ما ذكر من الآثار عجبا؛ دل على عظمته بقوله - على طريق الاستنتاج -:
ذلك ؛ أي: الأمر العظيم الغريب من الحديث المنزل؛ والقبض؛ والبسط؛
هدى الله ؛ أي: الذي لا يمتنع عليه شيء؛
يهدي به من يشاء ؛ ومن هداه الله فما له من مضل؛ ويضل به من يشاء؛ فلا تتأثر جلودهم لقساوة قلوبهم؛ فيكون هدى لناس؛ ضلالا لآخرين؛
ومن يضلل الله ؛ أي: الملك الأعظم؛ المحيط بكل شيء؛ إضلالا راسخا في قلبه؛ بما أشعر به الفك؛ ليخرج الضلال العارض؛
فما له من هاد ؛ لأنه لا راد لأمره؛ ولا معقب لحكمه؛ لأنه الواحد في ملكه؛ فلا شريك له؛ فالآية من الاحتباك: ذكر أولا إطلاق أمره في الهداية؛ دليلا على حذف مثله في الضلال؛ وثانيا انسداد باب الهداية على من أضله؛ دليلا على حذف مثله فيمن هداه؛ وهي دامغة للقدرية.
[ ص: 492 ]