ولما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثأر؛ وإذلال الظالم؛ قال - مشيرا بأداة التراخي إلى مدة البرزخ؛ مؤكدا لأجل إنكارهم البعث؛ فضلا عن القصاص؛ صادعا لهم بالخطاب بعد الغيبة -:
ثم إنكم ؛ أي: أيها العباد؛ كلكم؛ فإن كل أحد مسؤول عن نفسه؛ وعن غيره؛
[ ص: 501 ] هل راعى حق الله فيه؛ أو أنت وهم؛ من باب تغليب المخاطب - وإن كان واحدا؛ لعظمته - على الغائبين؛ وزاد في إثبات المعنى بقوله:
يوم القيامة ؛ فساقه مساق ما لا خلاف فيه؛ وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال؛ لانقطاع الأسباب؛ بقوله - صارفا القول إلى وصف التربية؛ الذي يحق له الفضل على الطائع؛ والعدل في العاصي -:
عند ربكم ؛ أي: المربي لكم بالخلق؛ والرزق؛ فلا يجوز في الحكمة أن يدعكم يبغي بعضكم على بعض؛ كما هو مشاهد من غير حساب؛ كما أن أقلكم عقلا لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكا ضعيفا؛ أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة؛ فكيف بمن فوقه؟! فكيف بالحكماء؟!
تختصمون ؛ أي: تبالغون في الخصومة؛ ليأخذ بيد المظلوم؛ وينتقم له من الظالم؛ ويجازي كلا بما عمل؛ أما في الشر فسوءا بسوء؛ لا يظلم مثقال ذرة؛ ولا ما دونه؛ وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها؛ إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره؛ فلا ينبغي أبدا لمظلوم أن يتوهم دوام نكده؛ وعدم الأخذ بيده؛ فيقتصر في العمل؛ ويجنح إلى شيء من الخوف؛ والوجل؛ بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه؛ ويسر بما ييسر حسابه؛ ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق؛ الذي الناس فيه فريقان؛ ولا يشتغل بما لا يكون
[ ص: 502 ] من تصفية دار الكدر عن الأكدار؛ وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار؛ فإن الدوام فيها محال على حال من الأحوال؛ قال
القشيري: نعاه - صلى الله عليه وسلم -؛ ونعى المسلمين إليهم؛ ففرغوا بأنفسهم عن مأتمهم؛ ولا تعزية في العادة بعد ثلاث؛ ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه؛ وأنواع غمومه وهمومه؛ فليس له من هذا الحديث شمة؛ وإذا فرغ قلب عن حديث نفسه؛ وعن الكون بجملته؛ فحينئذ يجد الخير من ربه؛ وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم؛ وأنشد بعضهم - يعني في لسان الحال بما قدمنا -:
كتبت إليكم بعد موتي بليلة ... ولم أدر أني بعد موتي أكتب
انتهى؛ ومن المعلوم أنهم إذا أماتوا نفوسهم حييت أرواحهم؛ فانفسحت صدورهم؛ وانتعشت قوى قلوبهم؛ فاتسعت علومهم؛ واستنارت فهومهم؛ وتجلت لهم حقائق الأمور؛ فحدثوا عن مشاهدة:
"الناس نيام؛ فإذا ماتوا انتبهوا".