ولما علم بهذه البراهين أنه - سبحانه - المتصرف في المعاني؛ بتصرفه في القلوب بالهداية والإضلال؛ وكان التقدير: فلئن قررتهم بهذا الاستفهام الإنكاري ليقولن: بلى"؛ عطف عليه بيان أنه الخالق للذات؛ كما أنه المالك للمعاني والصفات؛ فقال - مفسدا لدينهم؛ باعترافهم بأصلين؛ القدرة التامة له؛ والعجز الكامل لمعبوداتهم -:
ولئن سألتهم ؛ أي: فقلت لمن شئت منهم؛ فرادى أو مجتمعين:
من خلق السماوات ؛ أي: على ما لها من الاتساع؛ والعظمة؛ والارتفاع؛
والأرض ؛ على ما لها من العجائب؛ وفيها من الانتفاع؛
ليقولن ؛ بعد تخويفهم لك بشركائهم الذين هم من جملة خلق من أرسلك؛ بما أنت فيه: الذي خلقها
الله ؛ أي: وحده؛ الذي لا سمي له؛ ولا إلباس بوجه في أمره؛ ولا يصدهم عن ذلك الحياء من التناقض؛ ولا الخوف من التهافت بالتعارض.
[ ص: 512 ] ولما كان هذا محيرا؛ لأنه بين؛ ولا بد أنهم لا يقبلون؛ ولا يعرضون؛ كان كأنه قيل: فماذا أصنع؟ فقال:
قل ؛ مسببا عن اعترافهم له - سبحانه - بجميع الأمر قوله - مقررا بالفرع؛ بعد إقرارهم بالأصل؛ ومقرعا بتخويفهم ممن ليس له أمر بعقد؛ ولا حل -:
أفرأيتم ؛ ولما كان السائل النصوح ينبغي له أن ينبه الخصم على محل النكتة؛ لينتبه من غفلته؛ فيرجع عن غلطته؛ عبر بأداة ما لا يعقل عن معبوداتهم؛ بعد التعبير عنها سابقا بأداة الذكور العقلاء؛ بيانا لغلطهم؛ فقال - معبرا عن مفعول "رأيت"؛ الأول؛ والثاني جملة الاستفهام -:
ما تدعون ؛ أي: دعاء عبادة؛ وقرر بعدهم عن التخويف بهم؛ بادعاء إلهيتهم بقوله:
من دون الله ؛ أي: الذي هو ذو الجلال والإكرام؛ فلا شيء إلا وهو من دونه؛ وتحت قهره؛ ولما كانت العافية أكثر من البلوى؛ أشار إليها بأداة الشك؛ ونبه على مزيد عظمته - سبحانه - بإعادة الاسم الأعظم؛ فقال:
إن أرادني الله ؛ أي: الذي لا راد لأمره؛ ولما كان درء المفاسد مقدما؛ قال:
بضر ؛ أي: إن أطعتكم في الجنوح إليها خوفا منها؛ وبالغ في تنبيههم؛ نصحا لهم؛ ليرجعوا عن ظاهر غيهم؛ بما ذكر من دناءتها؛ وسفولها بالتأنيث؛ بعد سفولها بعدم العقل؛ مع دناءتها؛ وبعد التهكم بهم بالتعبير عنها بأداة الذكور العقلاء؛ فقال:
[ ص: 513 ] هل هن ؛ أي: هذه الأوثان التي تعبدونها؛ "كاشفات"؛ أي: عني؛ مع اعترافكم بأنه لا خلق لها؛ وأنها مخلوقة لله (تعالى) ؛ "ضره"؛ أي: الذي أصابني به؛ نوعا من الكشف؛ لأرجوها في وقت شدتي؛
أو أرادني برحمة ؛ لطاعتي إياه في توحيده؛ وخلع ما سواه من عبيده؛ "هل هن ممسكات"؛ أي: عني؛ "رحمته"؛؛ أي: لأجل عصياني لهن؛ نوع إمساك؛ لأطيعكم في الخوف منهن؛ هذه قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو ؛ بالتنوين؛ وإعمال اسم الفاعل بنصب ما بعده؛ وهو الأصل في اسم الفاعل؛ والباقون بالإضافة؛ ولا فائدة غير التخفيف؛ وقد يتخيل منها أن الأوثان مختصة بهذا المعنى معروفة.
ولما كان من المعلوم أنهم يسكتون عند هذا السؤال؛ لما يعلمون من لزوم التناقض إن أجابوا بالباطل؛ ومن بطلان دينهم إن أجابوا بالحق؛ وكان الجواب قطعا عن هذا: "لا"؛ سواء نطقوا؛ أو سكتوا؛ تحرر أنه لا متصرف بوجه إلا الله؛ فكانت النتيجة قوله:
قل ؛ إذا ألقمتهم الحجر؛
حسبي ؛ أي: كافي
الله ؛ الذي أفردته بالعبادة؛ لأنه له الأمر كله؛ مما يخوفونني به؛ ومن غيره؛
عليه ؛ وحده؛ لأن له الكمال كله؛
يتوكل المتوكلون ؛ أي: الذين يريدون أن يعلو أمرهم كل أمر؛ وأمره بالقول؛ إعلاما بأن حالهم عند هذا السؤال التناقض
[ ص: 514 ] الظاهر جدا.