ولما كانت العقول والشرائع ناطقة بأن
خلاصة السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكان
[أفضل] أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بوحدانيته، فكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان
أخس الأعمال التي بين العبد وبين الخلق منع ما أوجبه الله في الزكاة، وكان معنى الشرك الحكم بأن ما لا شيء له أصلا وما لا يمكن أن يكون له ملك تام على شيء أصلا قد شارك من له الكل خلقا وتصرفا فيما هو عليه من الملك التام الذي
[ ص: 146 ] لا شوب فيه، وكانت الزكاة إشراك من له ملك غير تام لمثله في جزء يسير من ماله.
قال ذاما لمن أبى أن يشارك الخلائق وأشرك بالخالق:
الذين لا يؤتون أي: أمثالهم من أولاد آدم
الزكاة من المال الذي لا صنع لهم في خلقه، فهو مخلف عن أبيهم آدم، فالقياس يقتضي اشتراكهم كلهم فيه على حد سواء، ولكنا رحمناهم بتخصيص كل واحد منهم بما ملكت يمينه منه بطريقة، فقد حكموا في أمر ربهم بما لا يرضونه لأنفسهم، فإنهم أبوا أن يشركوا ببذل الزكاة بعض إخوانهم في بعض مالهم الذي ملكهم له ضعيف، وأشركوا ما لا يملك شيئا أصلا بما لا نفع مع المالك المطلق.
ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والأقبال بكلياتهم على لذاتها، فأنكروا الآخرة، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل له أصلا فعلا لا يمكنه تعاطيه بوجه، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون، ما أثبت لنفسه من فعله، فقال مؤكدا تنبيها على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق:
وهم بالآخرة أي: الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها
هم أي: بخاصة من بين أهل الملل
كافرون فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه
[ ص: 147 ] أحد في حق من يشاهدون في كل وقت من أفعاله أكثر من ذلك، وأثبتوا لمن لم يشاهدوا له فعلا قط ما لا يمكنه فعله أصلا، وهم يدعون العقول الصحيحة والآراء المتينة ورضوا لأنفسهم بالدناءة في منع [الزكاة] وحكموا بأعظم منها على الله وهم يدعون مكارم الأخلاق ومعالي الهمم، فأقبح بهذه عقولا وأسفل بها همما [فقد] تضمنت الآية أن الويل لمن اتصف بصفات ثلاثة: الشرك الذي هو ضد التعظيم لأمر الله،
والامتناع من الزكاة الذي هو ضد الشفقة على خلق الله
وإنكار القيامة المؤدي إلى الاستغراق فيما أبغض الله في طلب الدنيا ولذاتها و[هو] من الاستهانة بأمر الله، قال
الأصبهاني: وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام: أمس واليوم والغد، فمعرفة أنه كيف كانت أحواله بالأمس في الأزل هو بمعرفة الخالق لهذا العالم، ومعرفة كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر هو بالإحسان إلى أهل العلم بقدر الطاقة، ومعرفة الأحوال في اليوم المستقبل بالإقرار بالبعث والقيامة، فإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال.