ولما تضمنت الآية السالفة
الجزاء على كل جليل وحقير، وقليل وكثير، والبراءة من الظلم، كما قال تعالى
وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وأشير إلى
التوعد بالجزاء في يوم الفصل لأنا نشاهد أكثر الخلق يموت من غير جزاء، وكان من عادتهم السؤال عن علم ذلك اليوم، وكان ترك الجزاء إنما يكون للعجز، والظلم إنما يكون للجهل، لأنه وضع الأشياء في غير محالها فعل الماشي في الظلام، دل على تعاليه عن كل منهما بتمام العلم المستلزم لشمول القدرة على وجه فيه جوابهم عن السؤال عن علم الوقت الذي تقوم فيه الساعة الذي كان سببا لنزول هذه الآية - كما ذكره
ابن الجوزي - بقوله على سبيل التعليل:
[ ص: 212 ] إليه أي إلى المحسن إليك لا إلى غيره
يرد من كل راد
علم الساعة أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها، لما لها من الأمور التي لا نسبة لغيرها بها، فهي الحاضرة لذلك في جميع الأذهان، وإنما يكون الجزاء على الإساءة والإحسان فيها حتى يظهر لكل أحد ظهورا بينا لكل أحد أنه لا ظلم أصلا، فلا يمكن أن يسأل أحد سواه عنها ويخبر عنها بما يغني في تعيين وقتها وكيفيتها وصنعتها، وكلما انتقل السائل من مسؤول إلى أعلم منه وجده كالذي قبله حتى يصل الأمر إلى الله تعالى، والعالم منهم هو الذي يقول: الله أعلم، فاستئثاره بعلمها دال على تناهي علمه، وحجبه له عن كل من دونه دال على تمام قدرته، واجتماع الأمرين مستلزم لبعده عن الظلم، وأنه لا يصح اتصافه به، فلا بد من إقامته لها ليوفي كل ذي حق حقه، ويأخذ لكل مظلوم ظلامته غير متعتع.
ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلا عن العلم بها، عدها أمرا محققا مفروغا منه وذكر ما يدل على
شمول علمه لكل حادث في وقته دليلا على علمه بما يعين وقت الساعة، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من ثمرات النبات والحيوان التي
[ ص: 213 ] هي خبء في ذوات ما هي خارجة منه، فهي كخروج الناس بعد موتهم من خبء الأرض، فقال مقدما للرزق على الخلق كما هو الأليق، عطفا على ما تقديره: فما يعلمها ولا يعلمها إلا هو:
وما تخرج أي في وقت من الأوقات الماضية والكائنة والآية، فإن "ما" النافية لا تدخل إلا على معناه الحلول، فالمراد مجرد تصوير إن كان زمانه قد مضى أو لم يأت، وأكد النفي بالجار فقال:
من ثمرات أي صغيرة أو كبيرة صالحة أو فاسدة من الفواكه والحبوب وغيرها; والإفراد في قراءة الجماعة للجنس الصالح للقليل والكثير، نبهت قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر وحفص عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم بالجمع على كثرة الأنواع
من أكمامها جمع كم وكمامة بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وغطاء النور، وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئا من شأنه أن يخرج فهو كم ، ومنه قيل للقلنسوة: كمة، ولكم القميص ونحوه: كم، أي إلا بعلمه
وما تحمل من أنثى خداجا أو تماما، ناقصا أو تاما، وكذا النفي بإعادة النافي ليشمل كلا على حياله، وعبر ب "لا" لأن الوضع ليس كالحمل يقع في لحظة بل يطول زمان انتظاره فقال:
ولا تضع حملا حيا أو ميتا
إلا حال كونه ملتبسا
بعلمه ولا علم
[ ص: 214 ] لأحد غيره بذلك، ومن ادعى علما به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئا أصلا والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئا، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علما إلا الله سبحانه وتعالى.
ولما ثبت بهذا علمه صريحا وقدرته لزوما وعجز من سواه وجهله، وتقرر بذلك أمر الساعة من أنه قادر عليها بما أقام من الأدلة، وأنه لا بد من كونها لما وعد به من تكوينها لينصف لمظلوم من ظالمه لأنه حكيم ولا يظلم أحدا وإن كانوا في إيجادها ينازعون، ولم ينكرون قال تعالى مصورا ما تضمنه ما سبق من جهلهم، ومقررا بعض أحوال القيامة، عاطفا على أرشد السياق إلى تقديره من نحو: فهو على كل شيء قدير لأنه على كل شيء شهيد وهم بخلاف ذلك، مقررا قدرته تصريحا وعجز ما ادعوا من الشركاء:
ويوم يناديهم أي المشركين بعد بعثهم من القبور، للفصل بينهم في سائر الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل التوبيخ والتقريع والتنديم:
أين شركائي أي الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم، والعامل
[ ص: 215 ] في الظرف
قالوا أي المشركون:
آذناك أي أعلمناك سابقا بألسنة أحوالنا والآن بألسنة مقالنا، وفي كلتا الحالتين أنت سامع لذلك لأنك سامع لكل ما يمكن أن يسمع وإن لم يسمعه غيرك، ولذا عبروا بما منه الإذن
ما منا وأكدوا النفي بإدخال الجار في المبتدأ المؤخر فقالوا:
من شهيد أي حي دائما حاضر دون غيبة، مطلع على ما يريد من غير خفاء بحيث لا يغيب عن علمه شيء فيخبر بما يخبر به على سبيل القطع والشهادة، فآل الأمر إلى أن المعنى: لا نعلم أي ما كنا نسميهم شركاء لأنه ما منا من هو محيط العلم.