ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله، أتبعه تأكيدا لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه بلزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه، وليس له دليل على ما دوامها وانصرامها لعاد إلى البطر والكبر والأشر، ونسي ما كان فيه من الشدة، فقال مسندا إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر، ولم يسنده إليه تعليما للأدب معبرا بمظهر العظمة
[ ص: 218 ] تنبيها على أن ذلك من جليل التدبير
ولئن أذقناه أي الإنسان الذي غلبت عليه حالة الأنس بنفسه حتى أسفلته عن أبناء جنسه إلى رتبة الحيوانات العجم بل دونها.
ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر، قدم هنا ضده على صلته اهتماما به بخلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال:
رحمة منا أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث: الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط، ثم شرع بيان ذلك فقال:
من بعد ضراء أي محنة وشدة عظيمة
مسته فطال بروكها عليه; وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله:
ليقولن بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيما لكونها استدراجا إلى الهلاك:
هذا أي الأمر العظيم
لي أي مختص بي لما لي من الفضل، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالا من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها،
[ ص: 219 ] ويطردها بكفرها
وما أظن الساعة أي القيامة التي هي لعظمها المستحقة أن تختص باسم الساعة
قائمة أي ثابتا قيامها، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير: والفرض، لدفع من يعظه محققا لدوام نعمته:
ولئن رجعت أي على سبيل الفرض بقسر قاسر ما
إلى ربي أي الذي أحسن إلي بهذا الخير الذي أنا فيه
إن لي عنده وأكده على من يعظه بأنه يعذب إن لم يحسن قلبه وقالبه
للحسنى أي الحالة والرتبة البالغة في الحسن حدا لا يوصف لأني أهل لذلك، والدليل على تأهلي له ما أنا فيه الآن من الخير، ونسي ما يشاهده غالبا من أن كثيرا من النعم يكون للاستدراج، ومن أن كثيرا من الناس يكون في غاية النعمة فيصبح وقد أحاطت به كل نقمة، فهو بين أمنيتين في الدنيا بقوله هذا، وفي الآخرة يقول: يا ليتني كنت ترابا، فلا يزال في المحال - نعوذ بالله من سوء الحال.
ولما كان هذا هو
الكفر الصراح لنسيان نعمة المنعم وجعله الإنعام
[ ص: 220 ] من الواجب اللازم وشكه فيما أخبر سبحانه على ألسنة جميع الرسل أنه محط حكمته، سبب عنه سبحانه قوله، مؤكدا في نظير تأكيد هذا الناسي:
فلننبئن أي تنبئة عظيمة بخير الوصف فيها مستقصاة على سبيل العدل، وجعل الضمير الوصف تصريحا بالعموم وبيانا للعلة الموجبة فقال:
الذين كفروا أي ستروا ما دلت عليه العقول، وأوجبته صرائح النقول، من إقامة الساعة لإظهار جلاله وجماله، ومن
أنه تعالى يحل بالإنسان السراء والضراء ليخافه ويرجوه ويشكره ويدعو
بما عملوا لا ندع منه قليلا ولا كثيرا صغيرا ولا كبيرا، فليرون عيانا ضد ما ظنوه في الدنيا من أن لهم الحسنى
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ولنذيقنهم بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية لمثاقيل الذر
من عذاب غليظ لا يدع جهة من أجسامهم ولا قواهم إلا أحاط بها ولا تقوى على دفعه قواهم.