[ ص: 223 ] ولما ذكر سبحانه من أحوالهم المندرجة في أحوال هذا النوع كله ما هو مكشوف بشاهد الوجود من أنه لا ثبات لهم لا سيما عند الشدائد إعلاما بالعراقة في الجهل والعجز، دل على الأمرين معا بما لا يمكن عاقلا دفعه من أنهم لا يجوزون الممكن فيعدون له ما يمتعه على تقدير وقوعه، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك إيذانا بالإعراض عنهم دليلا على تناهي الغضب:
قل أرأيتم أي أخبروني
إن كان أي هذا القرآن الذي نصبتم لمغالبته حتى بالإعراض عن السماع باللغو حال قراءته من الصفير والتصفيق وغير ذلك، وليس ذلك منكم صادرا عن حجة قاطعة في أمره أتم معها على يقين بل هو عن خفة وعدم تأمل منكم أنه
من عند الله الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال فهو لا يغالب.
ولما كان الكفر به على هذا التقدير في غاية البعد، وكان مقصود السورة دائرا على العلم، نبه على ذلك بأداة التراخي مع الدلالة على أن ذلك ما كان منهم إلا بعد تأمل طويل، فكانوا معاندين حتى نزلوا بالصفير والتصفيق من أعلى رتب الكلام إلى أصوات الحيوانات العجم فقال:
[ ص: 224 ] ثم كفرتم به أي بعد إمعان النظر فيه والتحقق لأنه حق، فكنتم بذلك في شقاق هو في غاية البعد من الملائمة لمن لم يزل يستعطفكم بجميل أفعاله، ويردكم بجليل أقواله وآمن به غيركم لأنه من عند الله
من أضل منكم - هكذا كان الأصل ولكنه قال:
ممن هو في شقاق أي لأولياء الله
بعيد تنبيها على أنهم صاروا كذلك، وأن من صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله وتعالى التي من واقعته هلك لا محالة، ومن أهدى ممن هو في إسلام قريب وهو الذي آمن لأنه سالم الله الذي من سالمه سالمه كل شيء، فنجا من كل خطر - فالآية من الاحتباك: ذكر الكفر أولا دليلا على الإيمان ثانيا، والضلال ثانيا دليلا على الهدى أولا، وسره أن ذكر المضار أصدع للقلب فهو أنفع في الوعظ.